أبو الزهراء يكافئ مادحيه (6)
ثاني شعراء هذه الطبقة، هو الكُمَيت بن زيد.. ولد الكُمَيت بالكوفة سنة ستين للهجرة، وبعض مَن ترجموا له لا يُعيِّنون سنة مولده، وإنما يقولون: وُلد أيام استشهاد الحسين.. ليشيروا إلى أنه جاء إلى الدنيا في أيام الأحزان العلوية، وأنه بقصائده الهاشميات سيشفي الأحزان التي أحدقت بالعالم الإسلامي يوم جاء إلى الوجود.
مرت طفولة الكميت بين النباهة والخمول، فلم يُعرف عنها شيء ذو بال، ولعل أول ما لفت النظر إلى ذكائه ما وقع له مع الفرزدق، فراع الفرزدق حسنُ استماع الكميت، وأخذه الزهو والخيلاء، فلما فرغ من إنشاده أقبل على الصبي، وقال: هل أعجبك شعري يا بني؟
فأجاب الكميت: لقد طربت لشعرك طربًا لم أشعر بمثله من قبل! فانتشى الفرزدق، وأخذ العُجبُ منه كل مأخذ، وقال للصبي في نشوة المفتون: أيسرُّك أني أبوك؟
فقال الكميت: أما أبي فلا أريد به بدلًا، ولكن يسرني أن تكون أمي! فأصيب الفرزدق بالصدمة، وقال: ما مر بي مثلها. وهذه النادرة مع شاعر في منزلة الفرزدق كانت كفيلة بأن تجعل لذلك الطفل شهرة بين الناس.
ويأبى الرواة إلا أن يجعلوا الكميت بن زيد من الأعاجيب؛ فهم لا يريدون أن يجعلوه شاعرًا كسائر الشعراء، يبدأ بداية عادية، ثم يتسامى فيسمو إلى منازل الشعر الرفيع، وإنما يزعمون أنه نبغ دفعة واحدة، ويذكرون أن عمه كان رئيس قومه، وأنه قال يومًا: يا كميت لمَ لا تقول الشعر؟ ثم أخذه فأدخله الماء، وقال: لا أخرجك منه أو تقول الشعر، فمرت به قنبرة، فأنشد متمثلًا:
يَا لَكِ مِنْ قُنْبُرَةٍ بِمَعْمَرٍ
خَلَا لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
فقال له عمه ورحمه: قد قلت شعرًا فاخرج. فقال الكميت: لا أخرج أو أقول لنفسي. وعكف على نظم قصيدته المشهورة، وهي أول شعره، ثم غدا على عمه فقال: اجمع لي العشيرة ليسمعوا، فجمعهم له فأنشد:
"طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ
وَلَا لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّوْقِ يَلْعَبُ".
وسنرى أنه ليس بمعقول أن تكون هذه القصيدة أول شعره؛ لأن فيها من القوة ما يقطع بأنها ليست بداية شعرية، وإنما هي صرخة شاعر فحل. شاعريته ملأت الدنيا ضجيجًا، وأصبح في عصره وبعد عصره مضرب الأمثال.
طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ وَلَا لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّوْقِ يَلْعَبُ
وَلَمْ تُلْهِنِي دَارٌ وَلَا رَسْمُ مَنْزِلٍ وَلَمْ يَتَطَرَّبْنِي بَنَانٌ مُخَضَّبُ
وَلَا السَّانِحَاتُ الْبَارِحَاتُ عَشِيَّةً أَمَرَّ سَلِيمُ الْقَرْنِ أَمْ مَرَّ أَعْضَبُ
وَلَكِنْ إِلَى أَهْلِ الْفَضَائِلِ وَالنُّهَى وَخَيْرِ بَنِي حَوَّاءَ وَالْخَيْرُ يُطْلَبُ
إِلَى النَّفَرِ الْبِيضِ الَّذِينَ بِحُبِّهِمْ إِلَى اللهِ فِيمَا نَالَنِي أَتَقَرَّبُ
بَنِي هَاشِمٍ رَهْطِ النَّبِيِّ فَإِنَّنِي بِهِمْ وَلَهُمْ أَرْضَى مِرَارًا وَأَغْضَبُ
خَفَضْتُ لَهُمْ مِنِّي جَنَاحَيْ مَوَدَّةٍ إِلَى كَنَفٍ عِطْفَاهُ أَهْلٌ وَمَرْحَبُ
وَكُنْتُ لَهُمْ مِنْ هَؤُلَاكَ وَهَؤُلَا مِجَنًّا عَلَى أَنِّي أُذَمُّ وَأُقْصَبُ
وَأُرْمَى وَأَرْمِي بِالْعَدَاوَةِ أَهْلَهَا وَإِنِّي لَأُوذَى فِيهِمُو وَأُؤَنَّبُ
حب الرسول وآل بيته
وقال له الفرزدق: أنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي. وبلغ من شاعرية الكميت بن زيد أن صارت ديباجته عنوانًا عليه يعرفه بها الرواة، وإن لم يُقرَن اسمه إلى شعره. والأهم من أمر الكميت، وهو حبه لأهل البيت، وليس من المغالاة أن نقول إن حبه للرسول وأهله كان أقوى ما عُرِف من عواطف الشعراء لذلك العهد، وهو في حبه هذا يمثل الروحانية أصدق تمثيل..
وما ظنكم برجل يفنى في حبه فناءً تنمحي الدنيا في سبيله، أو تكاد، ويمضي فيتغنى بحب الرسول وأهل بيته في أيامٍ كان مدح الرسول فيها يعرِّض الشاعر لغضب بني أمية.
دخل الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق، رضي الله عنه، فقال له: جُعلت فداك، ألا أنشدك؟ فقال أبو عبد الله: إنها أيام عظام.. فقال الكميت: إنها فيكم. فقال هات. وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب فأنشده، وكَثُر البكاء حين أتى على هذا البيت: يُصِيبُ بِهِ الرَّامُونَ عَنْ قَوْسِ غَيْرِهِمْ فَيَا آخِرًا أَسْدَى لَهُ الْغَيَّ أَوَّلُ..
فرفع أبو عبد الله يديه، وقال: اللهم إغفر للكميت بن زيد ما قدَّم وما أخَّر، وما أسرَّ وما أعلن، وأعطه حتى يرضى.
ودخل يومًا على أبي عبد الله فأعطاه ألف دينار وكسوة، فقال له الكميت بن زيد: "والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكني أحببتكم للآخرة، فأما الثياب التي أصابت أجسامكم، فأنا أقبلها لبركتها، وأما المال فلا أقبله"، وكذلك رد المال، وقَبِل الثياب.
ودخل على فاطمة بنت الإمام الحسين بن علي، رضي الله عنهم، فقالت: هذا شاعرنا أهلَ البيت. وجيء بقدح فيه سويق فحركته بيدها، وسقت الكميت بن زيد فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينارًا ومركب، فهملت عيناه، وقال: "والله لا أقبلها، إني لم أحبكم للدنيا".
وقد اطمأنت جماهير المسلمين إلى صدق الكميت بن زيد، وكان خصومه من الشعراء يعادونه في هيبة وحذر خوفًا من غضب الرسول، وقد حدثوا أن دعبلًا لما ناقض الكميت في قصيدته التي هجا بها قبائل اليمن رأى النبي ﷺ في النوم فنهاه عن ذكر الكميت بسوء.