أحقر الناس والتسعيرة والمبالغة في أسعار السلع
في قول من الحكمة العليا والنفاسة العظمى سئل الإمام علي -رضي الله عنه وكرّم وجهه- من أحقر الناس؟ فقال: من ازدهرت أحوالهم يوم جاعت أوطانهم، لم أجد خيرا من هذه المقولة تلخص ما أود الحديث فيه، وهو جشع التجار الذين استغلوا الأزمة تلو الأزمة من كورونا إلى الحرب الأوكرانية –لاحظ التناسب بين الأزمتين في اللفظ - ليثروا على حساب الفقير، وكأنهم أحفاد أغنياء الحرب العالمية الأولى والثانية وكل حرب.
فهؤلاء تطغى المادة على سلوكياتهم وأخلاقهم بل ودينهم الذي يتشدقون به؛ لتكون هي رأس العبادة، يصدق فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث لأبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إنْ أُعطِي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ". هؤلاء التعساء عبيد المال يستغلون حاجة الناس وفقرهم وغلاء الأسعار عالميا ليرفعوا من أسعار السلع لتتخطى الزيادة المقررة بمراحل؛ ليحققوا الثراء الفاحش الحرام من دون الالتفات إلى مصلحة الوطن والناس.
إنّ جواب الإمام علي الذي يرجع تاريخه إلى ما يقارب 1400 سنة ينطبق تمامًا على أحقر الناس الذين يجوّعون أوطانهم وشعوبهم، لينعموا هم بالرفاهية وانتفاخ بطونهم من التخمة، في حين تنتفخ بطون الفقراء من الجوع. ويظل التاجر الصدوق الأمين – كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم – (مع النبيين والصديقين والشهداء) وقليل ما هم.
أما التجار الجشعون المحتكرون للأسف ليسو قلة وإنما هم الأغلبية في كل ربوع مصر، تجد التجار في أي مكان يتفقون على أسعار مبالغ فيها للسلع حتى لا يخرج أحدهم عن إجماع الجشع، ويضطر الناس للشراء بأسعار مرتفعة، علما أن السلعة ذاتها توجد في مكان آخر بأسعار أقل –كما نجد في الفواكه والخضراوات ومنتجات الألبان الخ- وهي السلعة ذاتها دون تغير.
لكن هؤلاء منعدمو الضمير يستغلون هذه الأزمات مدفوعين ببريق المال، ويتخذون من الجشع سلاحا لهم للتلاعب فى السلع والمواد الضرورية، وقام بعض التجار بالتلاعب فى السلع الضرورية المدعومة برفع أسعارها عما هو محدد وقيامهم بالامتناع عن بيعها بل وجمعها من الأسواق وتخزينها فترة ثم إعادة طرحها للبيع بأسعار مبالغ فيها، كذا شراؤها من الأسواق بثمنها المحدد ثم إعادة بيعها بثمن مرتفع مبالغ فيه، كما يحدث في اللحوم التي تطرح في المنافذ المخفضة الأسعار مثلا.
ويحدث كل ذلك رغم أن القانون لم يقصر في التشريعات الرادعة لتلك الظواهر، فيعتبر البيع بسعر يزيد عن السعر المعلن عنه جريمة يعاقب عليها القانون، وأنها تمثل جنحة بالمادتين 5/رابعًا، 13/3 من المرسوم بقانون رقم 163 لسنة 1950 المعدل، والمادتين الثانية والسادسة من قرار وزير التموين رقم 217 لسنة 2017 المعدل بالقرار رقم 330 لسنة 2017..
التي نصت على أن بيع سلعة غذائية بأزيد من سعر المعلن أو المدون بفاتورة البيع الضريبية، يعاقب عليها بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن سنتني وبغرامة مالية قد تصل إلى 5 آلاف جنيه. كما حظرت المادة 8 من قانون حماية المستهلك حبس المنتجات الاستراتيجية المعدة للبيع عن التداول بإخفائها، أو عدم طرحها للبيع، أو الامتناع عن بيعها، أو بأى صورة أخرى،..
ضبط الأسعار
وألزمت حائزي المنتجات الاستراتيجية لغير الاستعمال الشخصى بإخطار الجهة المختصة بالسلع المُخزنة لديهم وكمياتها، ونصت على أن يصدر قرار من رئيس مجلس الوزراء بتحديد المنتجات الاستراتيجية لفترة زمنية مُحددة وضوابط تداولها والجهة المختصة بذلك.
وبالرغم من كل ذلك لا نجد الحملات الكافية التي تقوم بمتابعة الأسواق والقبض على المخالفين، بل نجد أن ما طالب به رئيس الوزراء ووزير التموين من ضرورة وجود أسعار مُعلنة لكل السلع على مستوى الجمهورية، لضمان توافر السلع بالأسعار المناسبة، فى ظل تصاعد أسعار الدولار مقابل الجنيه المصري، لم يحدث ذلك بصورة موسعة، وإنما في بعض المحلات الكبرى فقط، أما غالبية المحلات لا تجد أثرا لقائمة الأسعار التي على أساسها يشتري المواطن، بل الأغرب أننا أحينا نجد سعرا على السلعة والتاجر يبيع بأعلى منه في وقاحة منقطة النظير "مش عجبك اشتري من عند غيري".
الكل بات ينتظر إجراءات الحكومة على المخالفين لوضع أسعار السلع بوضوح من تطبيق إجراءات عقابية حاسمة ضد المنافذ غير الملتزمة. ويؤكد بعض الخبراء أنه لضبط الأسعار يمكن للدولة المصرية اتخاذ إجراءات منها: تبني آلية التسعيرة الجبرية، للسلع الأساسية للمواطنين، مع تقرير حزمة من العقوبات الشديدة، التي تتواكب مع شدة الأزمة، لمن يشرع في زيادة الأسعار على الموطنين، حيث إن تبني تلك الآلية، لا يتعارض مع آليات اقتصاد السوق، إذ نجد أن الدول الرأسمالية التي تطبق آليات السوق بشكل كامل، تلجأ إلى مثل تلك الإجراءات..
خصوصًا في ظل الأزمات المالية. والتنسيق بين وزارة التموين والتجارة الداخلية، واتحاد الغرف التجارية بشأن التسعير العادل للسلع، ثم إعلان قوائم الأسعار، ومراقبة كافة منافذ البيع الكبيرة والصغيرة. مع وضع تكليفات للأجهزة الرقابية بإغلاق منفذ البيع ومُصادرة السلع التي تعرض بأسعار مرتفعة، وإعادة بيعها لصالح المواطنين.
وضرورة المتابعة المستمرة للأجهزة الرقابية لموقف الأسواق وأسعار السلع، في ظل ما تلاحظ من وجود تفاوت في الأسعار، وارتفاعات غير مبررة في بعض الأحيان. لا بد من إعلان أسعار كل السلع وفي ضوء ما تمُر به بُلدان العالم حاليًا من ظروف استثنائية، وأزمة غير مسبوقة، فإن الأمر باتَ يتطلب على الصعيد المحلي وجود أسعار مُعلنة لكل السلع على مستوى الجمهورية، مع التعامل بمنتهى الحسم مع أي مكان لا يُعلن أسعاره.
وأخيرا يجب أن نعلم أن ارتفاع الأسعار سيؤدى عاجلًا أو آجلًا إلى غضب الناس، وعدم رضاهم عن الدولة بكل مؤسساتها مما يجعلهم فريسة للمتربصين بالوطن، ليبثوا سمومهم وادعاءاتهم المضللة والكاذبة مما يؤثر على ثقة الشعب، ويعرض الاستقرار للخطر.