في أنوار علوم المعارف
قبل أن يخلق الله تعالى الأجساد وقبل أن يكون لنا ظهور ووجود في هذا العالم وهذه الحياة وبعدما خلق الله تعالى أبا البشر أبينا آدم عليه السلام وبعدما مسح الحق عز وجل على ظهر أبي البشر بيد القدرة الإلهية واستخرج كل أرواح البشر.. في عالم يسمى بعالم الأرواح. عالم الذر والعهد والميثاق وأخذ العهد والميثاق على أرواح البشر بعد الإقرار بربوبية الله تعالى على أثر تجلي الله عز وجل بأنوار صفات الربوبية على الأرواح التي شاهدتها الأرواح عيانا وكان الإقرار بالربوبية على أثر الشهود وليس الإخبار..
يقول تعالى مخبرا عن هذا المشهد العظيم في كتابه الكريم "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)". في هذا العالم الروحاني والمشهد العظيم انقسم حال الأرواح إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول وهم أرواح السادة الأنبياء والأولياء أصحاب مقام الصديقين تلك الأرواح التي لم تلتفت ولم تشغل بالأنوار التي حلت وسطعت في ذواتها من أثر التجلي. بل إنجذبت بالكلية إلى مصدر التجلي وتعلقت بحضرة المتجلي سبحانه وتعالى. وهؤلاء هم أهل الله تعالى من أهل الإيمان والتقوى والصلاح وأهل الوفاء بالعهد والميثاق وهم الصفوة من البشر وهم أهل محبة الله عز وجل الذين يريدون وجهه الكريم.
وهم خاصة أهل الإيمان وسادة المؤمنين وهم أهل اليتم والغربة في هذه الدار الدنيا. والذين أشار إليهم النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله بقوله "بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء".. هذا عن القسم الأول.. وأما عن القسم الثاني وهم عامة أهل الإيمان وهم الذين لم تنجذب أرواحهم بالكلية إلى مصدر التجلي وهو الله وتعلقت أرواحهم بين مصدر التجلي والنظر إلى أثر التجلي وهو نور صفات الربوبية التي سطعت في ذواتهم فلم يتحققوا بالجزبة الكاملة لحضرة المتجلي سبحانه وتعالى وهم عامة أهل إلإيمان والخلط بمعنى..
أنهم شغلوا بأنفسهم وبالدنيا وخلطوا بين الأعمال الصالحة والأعمال السيئة. فحالهم بين الطاعة والمعصية وبين الذكر والغفلة.. هذا عن حال الصنف الثاني من البشر.. وأما عن حال الصنف الثالث من البشر وهم أهل الكفر والشرك والضلال والإلحاد فهم الذين شغلوا بالأنوار التي ظهرت في ذواتهم لحظة تجلي الحق عز وجل بأنوار صفات ربوبيته وحجبت ارواحهم عن مصدر التجلي ولم تنجذب إلى صاحب الحضرة سبحانه وتعالى ولم يروا سوى الأنوار التي سطعت في ذواتهم فحجبوا بها ولم يروا سوى أنفسهم.
ومن هنا تأصل الكبر والتعالي في أنفسهم والوقوف عند "الأنا" مناط الكبر والتعالى. ومن هنا ولأجل ذلك جاء تصنيف الخلق خاصة أهل الإيمان وهم السادة الأنبياء والسادة الأولياء وهم أهل السبق. أي الذين سبقت أرواحهم بالتعلق بمصدر التجلي والتعلق بحضرة المتجلي سبحانه وهم الذين أشار الله تعالى إليهم في كتابه الكريم في مواطن كثيرة منها قوله تعالى "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ".
وقوله عز وجل " منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا" وهم أهل الروح والريحان وجنة نعيم لقوله سبحانه، "فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ ٨٨ فَرَوۡحࣱ وَرَیۡحَانࣱ وَجَنَّتُ نَعِیمࣲ".
هذا ولقد وصف الحق عز وجل أحوال العباد في الآخرة في سورة الواقعة فقال سبحانه "إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا (6) وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (15) مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) " إلى آخر الآيات التي وصف الله تعالى فيها أحوالهم.. اللهم احسن لنا الخاتمة واجعلنا على سرر متقابلين.