عن الحَلَبِسّة نحدثكم
وقف الرجل غاضبًا وهو يلقى بدجاجات ميتة بسبب عدم وجود أعلاف قائلا: «لن تجدوا الحلبسة لتأكلوها».. لم أكن أعرف أن الحلبسة هى حمص الشام ومكوناتها حمص وثوم وليمون وشطة.
الحلبسة التى تحدث الرجل عنها موحيًا بأنها الرخيص الذى لن تجدوه على عكس إشارة الصارخ فينا محذرًا هى منتج غال وقد لا يناله إلا علية القوم، ولك أن تحسب منها كوبا؛ لتعلم أن الحلبسة لا تتفق وإشارة الرجل إليها بوحى من التفاهة.
أدركت الحكومة فجأة أنها سارت من غى إلى غي، ومن وهم إلى وهم، ومن خيال إلى خيال، وعلمت يقينا أن الصارخ فينا بنداء الحلبسة كان على حق، فالحلبسة أصبحت على مسافة من الناس بسبب ارتفاع ثمنها.
ولم تكن استجابة الحكومة لنداء الحلبسة فى موعدها، وجاءت متأخرة كثيرا بعد أن صار العمل على مكونات الحلبسة لم يأت فى موعده فالحمص بذرة والليمون بذرة والثوم بذرة وكلها بحاجة إلى وقت حتى تصير ثمارا.
أطلقت الحكومة فجأة مبادرة صادرة عن وزارة المالية لصاحبها محمد معيط وجاء فى مبادرته أن الحكومة خجلت وكان من نتاج خجلها أن أدركت أن السر فى الحلبسة وغير الحلبسة.. قال صاحب وزارة المالية إن مبادرته خصصت 150 مليار جنيه لدعم القطاعين الزراعى والصناعى بتيسيرات فى الاقتراض وبفائدة غير التى نراها على نحو من الجنون، 11٪ فقط.
قبل نداء الحلبسة بسنوات كنا قد تحادثنا وتحدثنا وبلغ الحديث حد الصراخ إذ إن المصانع تتوقف عن العمل، الواحد تلو الآخر حتى بلغت عدد المصانع المتوقفة الآلاف.. نعم الآلاف.. ولم تكن المصانع المتوقفة هى الكارثة الوحيدة فقد تزامن معها أن المصانع التى ناضلت وجاهدت وحاربت من أجل البقاء ظلت فى المساحة المنسية بأجندة الحكومات المتعاقبة.
وفى الوقت نفسه كنا نباهى الأمم بأطول سارية علم وأطول برج والأيقونيات المدهشة والكبارى اللولبية والطرق الواسعة وسع الاستخفاف بصحارى قد لا يطؤها إنس ولا جان.. كان المخلصون ينبهون إلى خطورة ترك الفلاح وحيدا شريدا فى معركة الإنتاج الزراعى وهو الذى ينافس فلاح أوروبا وغير أوروبا وهناك يدعمون الفلاح وهنا لا يرى منا دعما إلا كل تجاهل.
هجر الأرض من هجر وظل على دينه قابضا على الجمر من قرر البقاء وظل وحده على فرس من وهم يناضل ويجاهد فى معركة كنا فيها أصحاب موسى عندما قالوا لنبيهم: «فاذهب أنت وربُّك فقاتلا».
مبادرة الحكومة
وتوالت الصرخات والاستغاثات حتى قال قائل «مفيش فايدة»، وقال آخر سنغلق أبواب مصانعنا، وقال ثالث أغلقناها ونجلس على قارعة الطريق نقتات وعمالنا فراغا موحشا ومرعبا وخطيرا.
استفاقت الحكومة فجأة وقالت بمبادرتها في الوقت العصيب وبعد أن أطل الطوفان بشبح مخيف وخلت الأسواق من البيض ومن الدجاج وقفزت أسعار الأعلاف إلى أرقام حدها الأقل جنونا وحدها الأعلى سقوطا مدويا.
الصناع وإن بدأوا فأمامهم سنوات لتقوم صناعاتهم، والزراع وإن أرادوا فإن مثل هذه الفائدة تعد نارا وجحيما على بيوتهم، فمكاسبهم لا تصل إلى نصف هذه القيمة من الفوائد.. وإن صدقنا وصدق غيرنا أن الحكومة التى غاصت حتى العنق في الاستثمار فى الطريق الخاطئ فهل يسعفنا الوقت وهل نترك الفرصة الحقيقية للقطاع الخاص الذى تأذى كثيرا.
هل الحكومة صادقة فيما ذهبت إليه وهل لديها الرغبة الحقيقية فى تعديل المسار وهل يمكن للناس الوثوق بما قالت به وزارة المالية وهل يمكن نقاشه على نحو من الجد وتعديله إن لزم الأمر؟
أنا شخصيا من المتفائلين وذلك ليس عن معلومات متوفرة لدى ولكن لحكمة أطلقها حكيم فرعونى «أحلك ساعات الليل ما قبل الفجر» ولا نظن أن حلكة قادمة على ليالينا أكثر مما نعيش من ظلمة وظلم وظلام.
القادم حتما سيكون أفضل لأن القائم الآن ليس هناك أسوأ منه ولا أصعب منه فليس هناك أصعب من ألا يجد الأب قوت أولاده ولا دواء أطفاله ولا أموال تعليم صبيانه.. ليس هناك ما هو أخطر مما نعانى وما نواجه وما نحن عليه، وليست هناك فئة وحيدة فى المجتمع لم تتأثر بما فعلته سياسة الدولة وخطاياها فينا إلا السماسرة والهليبة وطبقة المنافقين.