مؤتمر القدس.. رسائل الدعم والحسم والأمل!
مؤتمر دعم القدس الذي انعقد أخيرا بالقاهرة وحضره الرئيس السيسي والعاهل الأردني والرئيس الفلسطيني.. يبعث برسائل عربية قوية مباشرة لإسرائيل وحكومتها الجديدة التي تضم متطرفين قام أحدهم؛ وهو وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير باقتحام باحة المسجد الأقصى المبارك بحماية من قوات الاحتلال مطلع الشهر الماضي؛ مستغلًا زخم الأزمات والتحديات التي داهمت الإقليم والعالم كله.
أهم هذه الرسائل في رأيي هي أن فلسطين سوف تظل - رغم كل الظروف الدولية والإقليمية الصعبة- هي القضية المركزية الأولى للعرب، وأن القدس الشرقية ستظل مدينة عربية فلسطينية خالصة لا ينال من عروبتها أي تغييرات أو إجراءات إسرائيلية منفردة؛ لأنها ببساطة ستواجه برفض عربي شعبي ورسمي حاسم، كما أنها تتعارض مع قرارات الشرعية الدولية..
ما يعني أن سياسة الأمر الواقع الذي تسعى إسرائيل إلى فرضها بالقوة لن تلقى أي اعتراف أو قبول من هنا أو خارج هنا، بل ستصب مزيدًا من الزيت فوق نار مشتعلة ويمكنها إذا تركت بيد المتطرفين أن تسهم في إشعال وتفجير الأوضاع في الأراضي المحتلة والمنطقة كلها، ولسوف تفضي بالضرورة إلى اضطرابات وخسائر تثقل كاهل جميع الأطراف.. ولن تجلب الأمن لشعب إسرائيل أبدًا.
اقتحام بن غفير للمسجد الأقصى وهو وزير للأمن القومي في حكومة نتنياهو، ودون اعتراض أجهزة الأمن الإسرائيلية التي حذرت من هذا السيناريو قبل تشكيل تلك الحكومة.. لكنها عادت لتسمح بهذا الاقتحام.. يعطى دلالات رمزية أكثر منها واقعية، تتعلق بتنفيذ اتفاقيات الائتلاف التي أقرت عمليات تنقيب تحت المسجد الأقصى للبحث عن الهيكل، وقد أعلن وزير الأمن القومي الإسرائيلي هذا المخطط ومضي في تنفيذه في مغازلة سياسية ممجوجة للمستوطنين الإسرائيليين المؤيدين له.
مؤتمر دعم القدس يكتسب دلالة مهمة، ولعل عنوان المؤتمر ذو مغزى واضح؛ وهو توفير الدعم للمدينة المقدسة، والحسم في مواجهة آلة الاحتلال الغاشمة التي تسعى لتغيير وضع الوضع في المدينة المقدسة.. كما جاء المؤتمر ليضع النقاط فوق الحروف ويعلن بصورة حاسمة ودون مواربة رفضه القاطع لأي تغيير على الأرض من جانب الاحتلال الإسرائيلي..
ويجسد في الوقت ذاته أهمية الدور المصري التاريخي والفعال فى القضية الفلسطينية؛ فالقاهرة كانت ولا تزال في صدارة الداعمين للحقوق المشروعة للفلسطينيين ولا تتوانى عن الإعلان عن التمسك دومًا بحل الدولتين.. ولا تفتأ تشدد على ضرورة تفعيل عملية السلام ورفض الإجراءات الإسرائيلية الأحادية، وتحذر من عواقبها الوخيمة لفرض أمر واقع يؤثر سلبًا على أفق مفاوضات الوضع النهائي بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
دعم صمود القدس
ولا يخفى ما تبذله مصر من جهود حثيثة في ملفات عديدة تخص الشأن الفلسطيني؛ ذلك أنها تبذل أقصى ما في وسعها للم الشمل ووحدة صف الأشقاء وإنهاء الانقسام بين الفرقاء الفلسطينيين، ودفعهم نحو التوافق على رؤية وطنية موحدة ووقف التصعيد في غزة وإعادة إعمارها.
وما من مناسبة إلا وتعيد القيادة السياسية التأكيد على دعم مصر لتطلعات الشعب الفلسطيني نحو إقامة دولته المُستقلة القابلة للحياة على حدود 4 يونيو عام 1967، وفقًا لمقررات الشرعية الدولية حتى تنعم المنطقة بالسلام والاستقرار بعيدا عن الخيارات العسكرية الخشنة!
مؤتمر دعم القدس رفيع المستوى، كان فرصة ومنصة مهمة أعاد الرئيس السيسي خلاله التأكيد بحسم على دعم صمود القدس، عصب القضية الفلسطينية، والقلب النابض لدولتها، قائلا بعبارات قاطعة: "إن القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة المحورية، اختصت الوضع القانوني لمدينة القدس، بدءًا من تأكيد مجلس الأمن أنه لا يجوز الاستيلاء على الأرض بالقوة..
وأن جميع الإجراءات التشريعية والإدارية التي اتخذت من قبل إسرائيل باعتبارها قوة احتلال، والتي يمكن أن تغير من معالم أو وضع المدينة المقدسة، ليس لها صلاحية قانونية وتمثل انتهاكًا صارخًا لاتفاقية جنيف الرابعة.. وانتهاءً بتأكيد مجلس الأمن عدم اعترافه بأية تغييرات على خطوط الرابع من يونيو لعام 1967، بما في ذلك ما يتعلق بالقدس، إلا ما يتم الاتفاق عليه بالتفاوض".
رفض سياسات إسرائيل المتطرفة
الرسالة الأهم هو ثبات موقف مصر التي تعلنه صراحة ودون مواربة في جميع المحافل الإقليمية والدولية؛ وهو رفض وإدانة أية إجراءات إسرائيلية لتغيير الوضع التاريخي والقانوني القائم لمدينة القدس ومقدساتها، وتمسكها بالوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس، بما في ذلك المسجد الأقصى بكامل مساحته باعتباره مكان عبادة خالصًا للمسلمين، والتحذير من العواقب الوخيمة التي قد تترتب على الإخلال بذلك.
الموقف العربي - شعبيًا ورسميًا - يرفض بصورة قاطعة سياسات إسرائيل المتطرفة الضفة الغربية والقدس الشرقية من استيطان وتهويد وتهجير واعتقال وقتل.. وقد حان الوقت لأن تتوقف تل أبيب عن ممارسة ذلك الغي إذا أرادت جلب الاستقرار لنفسها وللمنطقة من حولها؛ ذلك أن مزيدا من توتير الموقف وتصعيده بمثل هذه التصرفات المتطرفة من الجانب الإسرئيلي سوف يقود إلى انفجار الأوضاع وربما خروجها عن السيطرة!!
يحدونا الأمل أن يسارع المجتمع الدولي لممارسة مسئولياته تجاه الحقوق الفلسطينية وكبح جماح التطرف الإسرائيلي.. لكننا نحن العرب مطالبون قبل ذلك وبعده بالعمل على توحيد الصف والكلمة، وأن تتكامل جهودنا ومواردنا الاقتصادية, وأن تتوسع مظلة تضامننا وتعاوننا المشترك، وأن تزداد فعالياتهم الداعمة لصمود الشعب الفلسطيني حتى لا تنفرد به إسرائيل بمفردها لتقرر مصيره في ظل ما يعيش فيه من تضييق وتعسف إسرائيلي..
قوة عربية مشتركة
فهؤلاء الأشقاء هم حائط الصد الأول أمام أطماع الدولة العبرية التي لا تخفي نواياها التوسعية على حساب جيرانها العرب انطلاقًا من تفسير توراتى لا يخفى على أحد.. ولن يوقف تلك المطامع إلا اتحاد العرب على كلمة سواء ووحدة صفهم لردع كل من تسول له نفسه المساس بأرضهم ومقدساتهم ومستقبلهم.. فهل يسارعون بالتكامل الاقتصادي..
أما آن الأوان لتشكيل قوة عربية مشتركة تكون مهمتها الردع والدفاع عن مقدرات الأمة العربية فى ظروفها الحالية، حيث تحيط بها أخطار كبيرة من اتجاهات عديدة ومن قوى إقليمية طامعة في خيراتها.
للرئيس السيسي رؤية بعيدة عبَّر عنها فى مناسبات عديدة خصوصًا في عامي 2015 و2017 حين دعا لتكوين جيش عربى مشترك يستند على اتفاقية دفاع مشترك هدفها حماية وحفظ الأمن القومى العربى والإقليمى والعالمى في مواجهة تمدد قوى إقليمية وغربية على حساب الوطن العربي، وإظهار دولنا كقوة واحدة قادرة على الردع في ظل التحديات الجارية التي تتفاقم عامًا بعد الآخر..
فهل يكون مؤتمر القدس بداية لعودة الالتحام العربي الشامل ونبذ أي خلافات وقطع الطريق على أي محاولات للفتنة والوقيعة تسعى إليها أبواق مغرضة تعرض العلاقات بين الأشقاء لمزالق خطرة لا يستفيد منها إلا الأعداء والمتربصون بهذه الأوطان؟!
هل ينكر أحد أن مصيرنا العربي واحد.. وأن ما يصيب دولة عربية هنا يؤثر بالضرورة على بقية بلداننا كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى.. ألا ترون أوروبا الواحدة كيف اجتمعت إرادتها وتوافق قادتها على مجابهة الدب الروسي وكيف كان تماسك صفها عاصمًا لها من مصير مظلم كاد يعصف بها في ظل تعثر إمدادات الطاقة وموجات التضخم والغلاء والكساد التي ضربت العالم بفعل كورونا والحرب الأوكرانية..
جمع الشمل العربي
لماذا لا يجتمع شملنا العربي بيدنا لا بيد غيرنا ليصبح أقوى وأقوى، بحيث يمكننا حل أي نزاعات بين دولنا دون تدخل قوى غربية أو حتى شرقية غالبًا ما تأتي على جناح الأطماع التوسعية لنهب مقدرتنا، والعبث بمصيرنا.. ألا ترون كيف تلعب أمريكا ومن لف لفها من دول الغرب بورقة حقوق الإنسان لتحقيق أهدافهم هم بينما أريقت الدماء وأشعلت الصراعات في دول حولنا تشردت شعوبها وضاع استقرارها ولم يطرف للغرب جفن بما يجري فيها من مآسِ..
بل ربما وقفوا وراء الستار لينسجوا خيوط الأحداث ويرسموا طريق المآسي دون وزاع من أخلاق أو ضمير ليهدروا أهم حقوق الإنسان؛ الحق في الحياة.. بينما نحن واقفون فى خانة المتفرج على شياطين الإنس والجن من هنا وهناك بينما هم يؤدون منذ قرون بعيدة أدوارا استعمارية خبيثة مزقت دولنا منذ اتفاقية سايكس بيكو وزرعت إسرائيل شوكة في ظهورنا، ولا يتورعون عن دعمها لالتهام أرض فلسطين والتطلع لأرض العرب..
أليس العرب أولى بالعرب.. ماذا ينقصنا لنتقدم خطوة للأمام في ملف التكامل لنزرع أرض السودان بأموال الدول الغنية وبأيدي الدول القادرة على الزرع والإنتاج بخبرات كبيرة لتحقيق الاكتفاء الغذائي الذي ظهرت أهميته القصوى بعد اندلاع الحرب الأوكرانية وتفجر موجات من التضخم والغلاء على إثرها ترهق كاهل المواطن العربي الذي تتوفر في أرضه مقومات الرخاء وتتأخر جهود التكامل المشترك التي هي أكثر من مهمة؛ هي ضرورة حياة باتت صعبة على الجميع؛ الأغنياء والفقراء فالكل في الهم سواء.
يحدونا أمل كبير أن تتكامل دولنا وتتشارك الهموم والأعباء والأحلام والأماني وأن تتساند وتتآذر عملا بقول الله تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ".. فيد الله دائمًا مع الجماعة والوحدة والعمل والإنتاج "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ".. تكاملوا يرحمكم الله.