رئيس التحرير
عصام كامل

مصر في قلب القوقاز

هو أرمنى ولد في تركيا وعاش في مصر ومات في باريس. هذا هو أول رئيس وزراء لمصر عام 1878م، إنه نوبار باشا الذي تولى رئاسة الوزارة في بلادنا ثلاث مرات، كان أولها في أغسطس من عام 1878م وآخرها أبريل 1894م.
لم يكن نوبار باشا هو الأرمنى الوحيد الذي أسهم في بناء مصر الحديثة، فالموضوع قديم وله توابع عديدة عندما كانت مصر ملاذا آمنا للأجانب الذين عاشوا فيها وأصبحت لهم وطنا وتبوءوا فيها أعلى المناصب.


وقد لا يرى البعض تفسيرا لما قاله الرئيس الأرمنى عن زيارة الرئيس المصرى للعاصمة الأرمينية ياريفان ووصفها بأنها تاريخية، غير أن التاريخ نفسه يحتفظ للشعبين المصرى والأرمنى بعلاقات مهمة وفاصلة. 

إبادة الأرمن

تعرض الأرمن لمأساة إنسانية مع مطلع القرن العشرين إثر مذبحتين ارتكبهما الأتراك ضد الشعب الأرمني راح ضحيتهما أكثر من مليون ونصف المليون مدنى أعزل.


ساعتها خرج الفلاحون من قراهم والشيوخ والنساء من مدنهم هربا من الموت إلى هجرات لمعظم عواصم العالم وكانت القاهرة أحن العواصم على هؤلاء الهاربين من جحيم تركيا.. وصلت أعداد كبيرة من الأرمن إلى بورسعيد وسكنوها، وكان للموقف الرسمي المصري آثار عظيمة على هذا الشعب القديم فلم يشعر الأرمن أنهم غرباء، وأصبحوا جزءا من النسيج المصري.


مارسوا التجارة وبعض الحرف الدقيقة وعاشوا معنا يأكلون مما نأكل ويشربون من نيل مصر الخالد وتوالت الأجيال وأصبحوا مصريين أرمن أو أرمن مصريين. ظلت الذاكرة الأرمنية تحتفظ لمصر وسوريا بصور ذهنية عظيمة على أثر تلك الهجرات حيث عاشوا في حلب ودمشق والقاهرة وبورسعيد وظلوا على رباط مع وطنهم الأم.

هذا هو التاريخ، أما الواقع فإن لديه من التفاصيل الكثير، ففي الوقت الذي تعبث فيه أنقرة بأمن أرمينيا بعد مشاركتها في حرب الـ46 يوما في إقليم جورنو كارباخ أو إقليم ارتساخ الواقع بين أذربيجان وأرمينيا تعود القاهرة في زيارة تاريخية إلى يريفان وباكو ربما لنزع فتيل الأزمة المتصاعدة بين أذربيجان وأرمينيا.


وأرمينيا دولة قديمة لها تاريخ حافل بالإسهام الحضارى على الإنسانية، ففي الوقت الذي كانت بلدان العالم تضطهد المسيحية كديانة جديدة كانت أرمينيا أول دولة في التاريخ تدين بالمسيحية كدين رسمي.


زيارة الرئيس السيسي 

هذا التاريخ وتلك الحضارة التي تمتد إلى أبعد من المسيحية تجد صداها عند التاريخ المصرى القديم، فالدول الحضارية لا تموت أبدا، فقد تمرض غير أن وريد الحياة فيها أقوى من كل المحن.
وزيارة السيسي إلى أرمينيا يبدو أن تحمل في مضمونها ما هو أبعد من السياحة والاقتصاد إلى مناطق أكثر دلالة على تلاقى عاصمتين لكل منهما إسهامه الحضارى للإنسانية كلها.


وفي الوقت الذي ترتفع فيه درجة حرارة العلاقات الأذرية الأرمنية من حرب ضروس ضد استقرارهما وضد أمنهما تجد القاهرة حاضرة في المشهد بعد أن بات واضحا أن خريطة العالم تتغير، فمصر في قلب الأحداث ومنطقة القوقاز واحدة من أهم مناطق الصراع الدولى الآن.


وتتشابه القاهرة ويريفان في قوتهما الناعمة، تاريخ الأرمن يحظى بأدباء وكتاب وشعراء وموسيقيين عبروا حدود الجغرافيا إلى إنسانية الإنسان أيا كان موقعه ومصر على ذات الخط لاتزال تلقى بعطرها الفكرى والأدبى والموسيقى إلى كل أنحاء العالم.


زيارة الرئيس السيسي ليست بعيدة مما يدور من أحداث جسام على صعيد الحركة الدؤوبة لخارطة العالم وتشكل قوى ما بعد هيمنة القطب الواحد إلى ما يمكن أن نتصوره من تعدد تبدو ملامحه الآن أكثر وضوحا.
 

ورغم العلاقات الدبلوماسية التي وصلت إلى عامها الثلاثين فإن الشعبين المصرى والأرمنى كانا أكثر تواصلا من العواصم الرسمية حيث تعددت رحلات الأرمن إلى مدينتي شرم الشيخ والغردقة باعتبارهما وجهة سياحية مهمة للأرمن وعلى نفس المنوال تتعدد رحلات المصريين إلى يريفان.


هذا العناق الإنساني بين الشعبين أسهمت فيه قوى ناعمة مشتركة للأرمن المصريين الذين اعتبروا أنفسهم جسرا للتواصل الإنساني بين أقدم شعبين على ظهر الكرة الأرضية.. أتصور أن القادم بين القاهرة ويريفان قد يشهد تطورا ملحوظا في حجم التعاون وتبادل وجهات النظر واتساع رقعة التواصل الاقتصادي والسياسي من أجل صالح الشعبين.

الجريدة الرسمية