ثقب نافذ إلى قلب جدي
اعتدت التجسس على جدي، منذ كنت صغيرا، فتلك النافذة المشرعة على غرفة المعيشة، التي يقضي فيها جل يومه، إنما هي – في حقيقتها – ثقب نافذ إلى قلبه. حين كنت في التاسعة، أغمضت عينا، ونظرت بالأخرى عبر النافذة، فرأيت جدي وبصحبته شاب وغلام صغير، ومن عجب أنه طرد الغلام إلى خارج المنزل، فيما أبقى على الشاب قربه. مرت لحظات، قبل أن يختفي جدي خلف باب الغرفة، مخلفا وراءه الشاب، الذي خالطت ملامح وجهه عناقيد من الغضب، وسرعان ما عاد الجد ومعه إناء به بعضا من الحبوب، ومعطف من الحرير.
شبح من دخان
خلف النافذة الأخرى، وقف الغلام يبكي، مستجديا أن يُسمح له بالاحتماء في المنزل من برودة الجو، لكن جدي أصر على إبقائه في الخارج، وتركني أنا غارقا في دهشتي، إذ لم أعهد قلبه بهذه القسوة. وأما الشاب، فدثره جدي بالمعطف، وراح يغذيه بالحبوب.. لتزداد مساحة الدهشة في صدري.. حتى أنني قررت أن أكشف ستري، وأن أوجه جدي بما رأيت.
لمحني جدي، فأشار لي بالاقتراب، ولما سألته عما فعل، وكيف له أن يتخلى عن غلام مسكين في هكذا ظروف، بينما يؤوي شابا يمكنه أن يتحمل ما لا يطيقه الصغير.. تبسم وقال لي: اصبر. إشتد البرد في الخارج، فسمعت طرقات على النافذة، حيث كان الغلام يواصل بها استجداء جدي، لعل قلبه يلين، غير أن جديدا لم يحدث، فيما أخذ الغضب ينمو في صدري كشجرة لبلاب.. إلى أن رأيت الغلام يتحول إلى شبح من دخان وراح يتمدد حتى ابتلع البيت داخله.
أما الشاب، فراح ينكمش حتى صار عصفورا صغيرا، حمله جدي في كفه ومرر يده برفق على ريشه، حتى أغمض عينيه وغفى. حين تأكد من أن الشاب الذي بات عصفوا قد نام بعمق.. شق جدي صدره ووضع داخله الطائر المسكين!لم يتركني جدي فريسة لحيرتي، التي كانت تنهش صدري، وقال: فأما الغلام الذي استحال شبحا فهو الخوف، يحاصرنا من الخارج.. وأما الشاب الذي استحال عصفورا، فهو الحزن الذي يسكننا.. قبل سنوات مات جدي، بعدما أورثني مخاوفه وأحزانه، فبت أهرب من مخاوفي، بينما أحمل حزني داخلي أينما كنت، وكلما سنحت الفرصة أخرجته لأمرر أصابعي على رشيه برفق.