الحزن وأشياء أخرى
حبيبي.. قالتها كعابر سبيل يشكر رجلا في الطريق دعاه إلى فنجان قهوة مجاني، ولم تدرك أثر الكلمة في صدري.. حبيبي التي خرجت من بين شفتيها عفويا كانت كرة الثلج والنار، التي سرت في دمي، فأشعلت في قلبي حدائق من زهر البرتقال.
رصيد الإنسانية
نولد ولدينا رصيد فطري من الإنسانية يكفي لأن نعيش جميعا في سلام ومحبة، بعضنا يزيد رصيده وبعضنا ينقص رصيده بقدر ما مر به من مواقف وظروف وبشر.. الإهمال، الخذلان، خيبات الأمل، الخيانة، القسوة، التخلي وأشياء أخرى تصيغ شخصياتنا ونفسياتنا فتجعلنا على ما نحن عليه.. ذلك الوحش لم يولد وحشا، بل هو صنيعة غيره، ومن عجب أنه حين ينتفض لينتقم لا يسترد حقه ممن حولوه مسخا، إنما يتحول إلى دراكيولا يمتص إنسانية ضحايا آخرين.
الرصاصة الأولى
أول رصاصة أطلقها في حياته أسقطت رجلا. ذهب ليتفحصه فاكتشف أنها جثته هو. اقتلع عينيه ليتجنب رؤية أحشائه الخارجه من بطنه. وعاش ما تبقى من عمره جثة عمياء تتكسب رزقها من رواية قصة وحيدة لبطل يقتل نفسه في بداية الحكاية.
فتاة التفاصيل
حري بك أن تعشق فتاة تهتم بتفاصيل الأشياء، تلك التي تدقق في خطوط ودوائر وزوايا التطريز على ثوب عمتها، تسافر داخل حكاية مرسومة على الأطباق الصينية في خزانة جدتها، تغوص في منحنيات وأفرع النباتات المنحوتة في كراسي سفرة قديمة، تمسح بيديها الغبار عن رؤوس أعمدة السرير العتيق، وتحدق في زخارف جدران ببيت جدها، تتحسس بأصابعها النقوش على صينية من النحاس، تطالع لساعات صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود لتخال ألوانها الأصلية..
تغمض عينيها وهي تعاين الكتابة البارزة على العملات المعدنية الصدئة، تزيل الزوائد عن أضلع طوابع البريد التي سقطت عن خطابات خالها لزوجته حين كان جنديا في حرب اليمن، تكشط الأوساخ المتراكمة في أركان علبة معدنية صغيرة أكبر منها سنا، تعيد رسم الخطوط التي محاها الزمن من رسوم قصة في أول كتاب أهداه لها والدها.. مثل هكذا فتاة إن أحببتك ستصون تفاصيلك وتبقى أنت للأبد.. حكايتها.
أين توجد الحياة؟
على جدران الغرف في البيوت الدافئة بأنفاس أهلها، حيث صورة زفاف قديمة معلقة تداري شرخا يشق الطلاء، وصور أخرى لأبناء وأحفاد ترسم خريطة الزمن، وساعة كبيرة بعقارب مكسورة لا يتوقف نبضها، ولوحة رسمها فنان مجهول لفتاة تطارد الفراشات في الحقل بفستان ملون، وسجادة شغلتها يد امرأة محبة، وآية من كتاب مقدس خطها رجل بيده القوية، تجاورها عين زرقاء، ورف نحيف من خشب عتيق يحمل كتابا بغلاف من الجلد..
وعروسة داخل صندوق تدور حول أطراف أصابع قدمها على موسيقى ساحرة، في ضوء شمعة كبيرة تخضب الحائط بدخان أسود يشبه الكحل في عيون الجدات، وشماعة من الأبانوس تحمل قبعة من القش، وخربشات طفل تزخرف رسمة بالطباشير لبيت صغير يتوسط الوادي الأخضر يحرسه كلب يمسح رأسه في ساق امرأة تطعم دجاجاتها تحت الشمس.
الحزن الأنيق
الحزن، رفيقي الأنيق في ثيابه السوداء المحبوكة بعناية، أشهد بأنه صاحب ضمير يقظ، إذ يلازمني كظلي دوما، كما أنه لا يقبل الرشى كالحراس الذين يمكنك أن تشتري ذمتهم بعلبة سجائر وورقة نقدية، ومع ذلك يدهشني بنبله، ورقة فؤاده، فقبل قليل وبينما كانت طفلة في الثالثة على كتف أمها تلاحقني بنظراتها اللامعة كسطح القمر وابتساماتها الواسعة كسرب طيور بيضاء مهاجرة، والتي تكشف عن عدة أسنان صغيرة ترصع فمها الوردي..
إنزوى الحزن خجلا بل تلاشى للحظات، مفسحا مكانا لإبتسامة كبيرة نبتت على شفتي حتى ابتلع الزحام تلك الساحرة الصغيرة ولم يبق منها سوى كفها الذي كانت تلوح به في وجهي (باي).. غابت كشمس خلف الغمام، فعاد الحزن ليرافقني مجددا، لكنه هذه المرة قاسمني الابتسامة في خجل.