المركز القومي للمشاعر (8)
وشت فريدة بزوجها لدى الحاكم، لم يكن أمامها خيار آخر لتحافظ على ابنتها بهية، فهي تعلم أن مسعى كرم الحافي للانقضاض على الحكم بعد الإطاحة بالحاكم، استنادا إلى خطته الرامية إلى الاغتراف من نهر المشاعر هو وصحبه، ليس سوى درب من الجنون، كما أن خوفها ألجمها وغشى بصرها، فلم تعد ترى سوى طريق واحد، وهو أن تصبح خائنة لزوجها، ما دام ذلك هو الطريق الوحيد لحماية ابنتها من بطش الحاكم، حين يفشل مخطط زوجها فيقرر الأول التنكيل به وبكل من له صلة به.
ربت الحاكم على كتف فريدة، واسمعها مونولوجا طويلا عن الوطنية، وكيف أنها فعلت الصواب حين فضحت خيانة زوجها كرم الحافي للوطن، بما خطط له، فهو يرى في نفسه الوطن، وخيانته هي خيانة للوطن، حتى وإن كانت تلك الخيانة في صالح شعب مملكة خوفو، بل والإنسانية جمعاء، والتي تغط منذ عقود في ظلام الخوف.. الخوف فقط دون غيره من مشاعر.
القبض على الحافي
استدعى الحاكم وزير داخليته عبدون النمر، وأمره بإعداد خطة محكمة للقبض على الحافي وأعوانه، ورغم أنه لم يذكر سببا لذلك، إلا أن الوزير لم يناقشه في الأمر، بل سارع إلى إعداد فرقة من قيادات الشرطة، لتقود عملية ضبط وإحضار تلك العصابة المخربة..
في الطريق الوحيد المؤدي إلى الصحراء، حيث يقبع نهر المشاعر في باطنها، تمركزت قوة كبيرة من رجال الشرطة بقيادة وزير الداخلية عبدون النمر، ونفر غير قليل من رجاله، ومئات من الجنود، ونصبوا كمينا محكما، انتظارا للصيد الثمين..
مرت ساعات ولم يظهر أثر لكرم ورجاله، وحين شعر الجميع بالملل والوهن، وظنوا أن أحدا لن يأتي، فوجئوا بكرم الحافي وحده يسير في الدرب، قادما نحوهم، يتقدم بخوف وحذر لكن مع وثبات شجاعة غير معهودة، ما جعلهم يشعرون برهبة، بل ويتملكهم الخوف من تلك الهيئة التي بدا عليها الحافي، ولولا أن خوفهم من انتقام الحاكم أكبر من خوفهم من هيئة فريستهم القادمة، لفروا هاربين، حتى أن بعض الجنود الكبار فكروا في الهروب بالفعل، غير أنهم تراجعوا حين سقط أحدهم برصاصة من أحد قيادات الداخلية، وكأنه إشارة.. «اثبتوا أو تدفنوا هنا».
تقدم كرم خطوة تلو الأخرى، فيما بدأ الجميع يستعدون، وفجأة هبوا جميعا، بعد إشارة من عبدون، فهجموا على الحافي وطوقوه، فأخذ يطالع وجوههم ويتبادل معهم الخوف بالخوف، فهو يخشاهم وهم يخشونه.. هم كثر وهو تحلى ببعض الشجاعة للمرة الأول في مملكة خوفو منذ عقود.
بات الحافي في قبضة الجنود، وحاول مقاومتهم بيديه وقدميه، غير أن كثرتهم غلبت شجاعته، فقيدوه بالأصفاد، وأتت سيارة رموه داخلها، وانطلقوا في ركب عظيم إلى السجن الكبير، حيث كان الحاكم في انتظاره.
جزاء الوشاية
سيق الكومندان –السابق– كرم الحافي إلى حيث يجلس الحاكم، والذي كان يرسم على وجهه ابتسامة صفراء، يستحيل أن تراها في هذه المملكة، فلا أحد هنا يبتسم سواء كانت ابتسامة صفراء أو أي لون آخر.
- كرم الحافي، الكومندان.. رجل أحسنا إليه وهو الآن يحاول الانقلاب علينا..
- أنا لم.. صفع الحاكم كرم الحافي، فلم يستطع إكمال ما انتوى قوله، حتى أن حروف الكلمة الأخيرة التى نطقها خرجت مخضبة بالدم السائل على جانبي فمه..
- خائن يحاول الكذب أملا في الحفاظ على رأسه بين كتفيه..
- أنا لا أدري ماذا فعلت يا سيدي الحاكم..
- من الجيد أن تذكر أنني سيدك وأنني الحاكم.. لكنك تعلم جيدا أنك خائن للحاكم وللوطن..
- لا أعلم عما تتحدث يا سيدي، لكن يمكنني أن أقسم أنها وشاية..
- وشاية.. أنا مثلك أعتقد أنها وشاية، ولهذا أمرت بقطع رأس الواشي، وسأدعك ترى ذلك بنفسك..
نظر الحاكم إلى وزيره وأومئ بإشارة منه فذهب فغاب عبدون داخل إحدى الغرف وخرج ومعه فريدة، فكادت عينا كرم الحافي تنخلع حين رأى زوجته..
- ها.. مصر على أنها وشاية؟
- لا يا سيدي.. صدقت فريدة وكذبت أنا..
أخرج الحاكم سلاحا من حول خصره، وأطلق رصاصة واحدة كانت كفيلة بإرداء فريدة قتيلة، وسرعان ما انسابت الدماء من رأسها لتصنع بركة صغيرة بلون قاتم..
صعق كرم الحافي، وأخذ يرتجف، ولم يقو على أن يفتح فمه ليصرخ حسرة على رفيقته، فهو يعلم جيدا أنها قد وشت به فقط لتحمي ابنتهما بهية..
قال الحاكم لكرم الحافي الذي بدا كمن قطع لسانه، إنه قرر قتل فريدة، رغم وطنيتها، وذلك ليس لأنه قرر معاقبتها على خيانة زوجها، بل لمعاقبة الزوج الذي كان قلبه يحترق وهو يشاهد حبيبته ترحل عن الدنيا أمام عينيه، دون أن يتمكن من وداعها..
أمر الحاكم وزيره أن يصطحب الكومندان السابق إلى الغرفة التي سبق وأن أخرج منها فريدة، فألقى به في غياهبها، وسط ظلام دامس، وحين سقط كرم على الأرض اصطدم بجسد صغير في أحد أركان الغرفة..
- من.. من هنا معي في هذه الغرفة المظلمة..
- أنا بهية يا أبي.