المركز القومي للمشاعر (6)
حين انفتح باب الزنزانة، هبت عاصفة من الضوء تبدد ظلام الغرفة، حتى أن السريقوسي ورفيقه الحارس وضعا أيديهما على وجوههما لتجنب صدمة تعرضهما للنور فجأة، غير أن الصدمة الأكبر كانت حين اعتادت عيونهما الضوء فرأيا أمامهما ذلك الرجل الذي يطالعان صورته كل يوم في كل مكان.. إنه الحاكم الذي يتزين صورته عملة البلاد والأخبار الأولى في النشرات والمواقع الإخبارية وفي الطرقات والمدارس وكل مكان..
لكن يا ترى ما الأمر الجلل، أو الجرم الذي ارتكبه السريقوسي أو الحارس، حتى يضطر الحاكم ذات نفسه إلى أن يأتي إلى هذه الزنزانة الصغيرة في المركز القومي للمشاعر؟!
لا أحد يعلم الإجابة، خاصة وأن المسجونين كانا غارقين في خوفهما، وهذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها الحارس السجين بالخوف، فطيلة الفترة الماضية وهو يكتفي بخوف زميله في المحبس، إذ كانت درجة خوف السريقوسي تكفي عشرة رجال..
ترجل الحاكم المهيب إلى داخل الزنزانة، وسرعان ما وضع خلفه أحد أتباعه مقعدا وثيرا، مصنوعا من الأبانوس الأسود اللامع تعلوه بطانة من قماش أحمر ناعم كخدود العذراوت. جلس الحاكم دون أن ينطق بكلمة، فيما انتشر أتباعه في الجوار، وراح اثنان منهم يمسكان بالمسجونين، ويقربانهما أمام الرجل المهيب.
نظر الحاكم إلى أحد مساعديه، وسأله عن سر سجن ذلك الحارس رفقة السريقوسي، فرد الرجل بأنه لا يدري السبب، لكن المؤكد أن الكومندان كرم الحافي هو الذي قرر ذلك، فأمر الحاكم بإحضار الحافي، غير أنهم لم يجدوه في مكتبه، فقد غادر المبنى منذ الأمس ولم يخبر أحدا عن وجهته.
بسبب مشاعر الفرح
سأل الحاكم ذلك الحارس المسجون عما فعله، فقال الأخير إنه لا يدري شيئا، فقد طلب منه أن يزج بنفسه إلى السجن في هذه الزنزانة، وهو بدوره وكعادة الحرس نفذ الأمر دون نقاش، مؤكدا أن الأوامر حين تصدر ممن هم أعلى منه لابد وأن يكون ورائها حكمة أو سبب وجيه، لهذا لم يشغل باله سوى بتنفيذ الأمر..
همس أحد المساعدين في أذن الحاكم:
- سيدي، ربما الكومندان كلف ذلك الحارس بمهمة سرية لمراقبة ذلك المسجون اللعين، بأن يدعي الحارس أنه مغضوب عليه، وقد سجن، وبذلك يكسب ثقة السريقوسي فيبوح له بما يعتمل في صدره.. هز الحاكم رأسه، ثم أشار للسريقوسي كي يقترب منه، ففعل الرجل والخوف يكسو ملامح وجهه، بينما جسده يرتجف كطائر ذبح قبل ثوان.
- علمت أنك قد جئت إلى المركز طالبا بعضا من مشاعر الفرح..
- نعم سيدي الحاكم.. قالها السريقوسي وهو يزدرد ريقه بصعوبة، حتى أنه نطق كل حرف من حروف تلك الجملة على حدا!
- ولماذا؟
- ابنتي.. إبنتي سيدي الحاكم سوف تتزوج من ابن أخي، وقد جئت طامعا في كرمكم من أجل الحصول على حصة من مشاعر الفرح تكفي سبعة أفراد لإقامة حفل الزفاف كما ينص القانون..
- القانون؟!
مستنكرا، ألقى الحاكم بكلمته، فتزلزل المكان، حتى أن المساعدين والحارس، وبالطبع السريقوسي، انتفضت أجسادهم بقوة، وكأنهم سمعوا ساحرا يردد تعويذة قاتلة، فترديد كلمة قانون بمثل ما نطق به الحاكم أمر مخيف.
قلق وخوف
- سيدي أنا.. أنا.. لم يكمل السريقوسي كلامه، إذ قاطعه الحاكم..
- خبرني يا سريقوسي، هل سبق وأن اختبرت مشاعر الفرح؟
- الحقيقة يا سيدي الحاكم لا.. لم يحدث ذلك، فمنذ ولدت أنا مواطن صالح لا يستخدم سوى مشاعر الخوف، فهي الشيء المتوفر بكثرة في بلادنا الميمونة كما تعلم، حتى في زواجي، أخبرني أبي أنه سيأتي إلى المركز القومي للمشاعر من أجل الحصول على قسط من مشاعر الفرح، لكنه لم يعد إلى البيت مذاك..
- وطيلة هذه الأعوام لم تشعر بالقلق علي والدك الغائب؟
- قلق؟ ومن اين لي يا سيدي بمشاعر القلق.. لقد شعرت بالخوف فقط..
- ولم يثر الخوف فيك شيئا لتبحث عن والدك؟
- يا سيدي، وأنت أعلم مني، حين يكون الخوف هو غذؤنا الوحيد فإن وجوده في حياتنا لا يثير الخوف، فقد اعتدنا الخوف للدرجة التي تجعلنا نخاف من كل شيء ما عدا الخوف نفسه..
هز الحاكم رأسه ومط شفتيه، ثم نظر إلى مساعديه وابتسامة خفيفة ترتسم على وجهه، وهو يقول..
- أرأيتم.. هذا فعلا مواطن صالح.. اطلقوا سراحه..
خرج الحاكم يسبح في أعوانه، كمن يسبح في نهر جاري، فيما بقي السريقوسي في مكانه، فسأله الحارس السجين عن سر بقائه في السجن رغم أن الحاكم أطلق سراحه..
- لقد أمر الحاكم بإطلاق سراحي، لكنني أخشى إن خرجت من تلقاء نفسي يشعر بالغضب مني فيأمر بإعادتي إلى الزنزانة أو حتى ترحيلي إلى السجن الكبير..
- إذا وماذا ستفعل؟
- سابقى هنا في محبسي، حتى يأتي من يصطحبني للخارج..
ظل باب الزنزانة مفتوحا، لكن السريقوسي لم يجرؤ على أن يخطو خطوة واحدة خارجه، وبدا كعصفور فقد حريته لأعوام، وحين انفتح باب القفص كان قد نسى الطيران وألف القيود.