المركز القومي للمشاعر (4)
في بيت السريقوسي، كانت سهر تجلس إلى جوار والدتها صالحة عبدالجواد التربي، على أريكة صلبة، تشاهدان أحد البرمج التلفزيونية، وأمامهما كوبان من الشوكولات الساخنة، وكانتا من وقت لآخر تميلان للأمام –بشكل آلي- فتلتقطان الأكواب وترتشفان منها القليل ثم تعيداها إلى الطاولة، قبل أن تعودا مرة أخرى إلى إسناد ظهريهما إلى مسند الأريكة الصلبة. وبعد نحو اثنتي عشر مرة من ارتشاف الشوكولاتة الساخنة، قالت سهر:
- أمي، لقد مر أسبوع على خروج أبي من البيت وذهابه إلى مركز المشاعر من أجل الحصول على بعض من مشاعر الفرح لإقامة حفل زفافي..
- نعم، وماذا في ذلك؟
- أعتقد أن الأمر لا يحتاج إلى كل ذلك الوقت، فالمركز يوجد على مسافة خمسة كيلومترات من بيتنا..
- كلامك مضبوط.. لكن ماذا تقصدين؟
- أقصد أنه كان من المفروض أن يذهب أبي ويعود في خلال ساعة واحدة، فلماذا يستغرق الوقت أسبوعا أو أكثر..
- يقول المثل «الغايب حجته معاه» ربما حدث شيء أخره..
- إذا هل علينا أن نقلق لغيابه؟
مشاعر القلق
نظرت الأم لابنتها ولم تنبس ببنت شفة، فهي تعلم أن القلق عندما يغيب الأب أمر واجب، لكن من أين لهما بمشاعر القلق في وطن لا مكان فيه للمشاعر سوى الخوف؟!
انتهى الحديث بين الأم وابنتها، وعادتا لما كانتا تفعلاه، فراحتا ترتشفان من أكواب الشوكولاتة الساخنة وهما تشاهدان البرنامج، ولم يقطع روتينهما سوى رنين جرس الباب، إذ أنهما فزعتا وكأن عفريتا يقف بالباب، فرغم أن لا شيء يدعو للخوف فربما الطارق هو الأب أو أحد الباعة مثلا، إلا أنهما وكعادة كل الناس في مملكة خوفو قد خافتا من باب الاحتياط، فكل ما يحدث في هذا المكان يدعو للخوف.
وضعت سهر الكوب على الطاولة، وهمت إلى الباب لترى من الطارق. من خلال العين السحرية، نظرت سهر، فوجدت عريسها المنتظر ساهر ابن عمها، ورغم ذلك نادت من خلف الباب:
- من الطارق؟
- أنا ساهر
- وما الأمارة؟
- كلمة السر كوكو..
للحظة توقف عقل سهر إلى أن تنبهت إلى أن كلمة السر التي رددها ساهر هي فعلا الكلمة المتفق عليها، فعادتهما أن يعينا كلمة سر مخصوصة من باب الحيطة الحذر، حتى لا يتعرض أحدهم لخديعة من أحد، كأن يطرق الباب أحد اللصوص مدعيا أنه أحد المعارف.
فتحت سهر الباب، فدخل ساهر، وجلس إلى جوار والدة زوجته المستقبلية، دون أن يتحدث، وعندما أغلقت سهر الباب دخلت خلفه وجلست إلى جواره، وظل ثلاثتهم غارقون في صمت وهم يتابعون البرنامج. مضت ربع ساعة، قبل أن يسأل ساهر عن عمه الغائب، فأخبرته صالحة أنه لم يأت بعد، فتسائل عن جواز القلق عليه، لكن المرأة كررت فعلتها ولم ترد.
قالت سهر إنها ستعد بعضا من الشوكولاتة الساخنة لساهر، الذي لم يعلق على الأمر، فكان السكوت الذي معناه الرضا.. انتهى البرنامج الذي كان يعرض في التلفزيون، فاقترحت صالحة أن تحضر شريط فيديو أثريًا يعود تاريخه إلى نحو مئة وخمسين عاما خلت، فلم يرد عليها ساهر ولا سهر بالقبول أو الرفض، فالأمر ليس محل نقاش..
فيلم كوميدي
ذهبت صالحة وعادت تحمل الشريط وجهاز الفيديو العتيق، وبعد أن أوصلته بشاشة التلفزيون، تبين أنه شريط لفيلم سينمائي قديم جدا من بطولة علي الكسار وإسماعيل ياسين بعنوان «نور الدين والبحارة الثلاثة».
كان المشهد لرجل سمين يعمل في محل فطاطري، يفترض أنه أحد الباعة لكنه كان يأكل كل ما تطاله يده من فطير بدلا من أن يبيعه، وهو الأمر الذي استدعى تدخل زميله في المحل لينبهه أن دوره هو أن يبيع الفطير لا أن يأكله، لكن الرجل السمين نجح في إقناع زميله النحيف، الذي كان دوره أن يراقبه ويمنعه، بأن يشاركه أكل الفطير بدلا من أن يراقبه!
قالت الأم إن هذا فيلم ورثته عن جدة جدة جدتها، وإنه فيلما كوميديا، فسألتها سهر عن معنى «كوميدي»، فأخبرته أنه يعني أنه فيلما مضحكا، فسألها ساهر عن معنى الضحك، فقالت الأم: ما كل هذه الأسئلة.. لقد قيل لي ذلك وعليكما أن تحفظا ما أقوله لتخبرا به أبنائكم حين تنجبون.
لم يكن بيد الأم شيئا، فالكثير من الأشياء في هذه المملكة غير قابل للتفسير، وعلى الجميع أن يؤدوا ما يطلب منهم دون نقاش أو سؤال، فالأسئلة هنا حرام لأنها تفتح أبواب جهنم..
أكمل ثلاثتهم مشاهدة الفيلم، وحين انتهوا من تناول الشوكولاتة الساخنة، همت سهر إلى المطبخ لتعد المزيد منها. ومضى الحال على ما هو عليه، إلى أن هبت الأم واقفة وأخبرتهما أنها ستذهب إلى الفراش كي تنام، ثم أوصتهما بشدة ألا يقدما على فعل «عاطفي» في غيابها، وأن عليهما الصبر حتى يتزوجا، فتساءل ساهر عن معنى العواطف وكذلك فعلت سهر، فردت الأم: ألم أحذركما من طرح الأسئلة.. في مملكتنا هذه لا مجال للأسئلة، فقط عليكما تنفيذ ما يطلب منكما.
ألقت الأم بكلماتها، ثم مضت إلى غرفتها لتنام، فيما بقي ساهر وسهر يشاهدان التلفزيون ويعبان في بطنيهما المزيد من الشوكولاتة الساخنة.