أيمن عبد التواب.. مسافر زاده الحب
لا تموت الشجرة مرة واحدة.. تسقطُ ورقة ورقة.. ويبقى فيها فرعٌ وارفٌ يحاولُ كسبَ معركة الحياة، حتى يأتيها الأجلُ فتسقط الشجرة.. هكذا الإنسان.. يموت قطعة قطعة. نموت كلما جربنا الفقدَ المؤلم.. نتساقطُ في حياتنا واحدًا بعد واحدٍ.. صديق يغادر وابن يرحل وأب يودع وأم تترك من خلفها فرعًا يرتبط بجذرها حتى يأتيه الأجلُ فيموت.
لم يكن كغيرهِ يتحسس طريقه في بلاط صاحبة الجلالة.. جاء بجلبةٍ وضجيجٍ لذيذ يوقظ في النائمين روحًا جديدة.. شابٌ جاء من أعماق الريف الطيب ليحفر اسمه بخيوط من حرير الأدب وإستبرق الأخلاق وياقوت العلم.. جاء أيمن عبد التواب كما رحل، بزفةٍ جاء وبحفلةٍ راح.
صالة التحرير الصغيرة تبدأ في رسم ملامح تجربة جديدة، وهو واحد من جيل جاد، ليتسلم راية القيم وشارة الكابتن.. نعم لم يكن أيمن عبد التواب الكاتب الساخر حتى الرمق الأخير ليكون «كابتن». قاد من أول الطريق المعنى الحقيقى لرسالة الصحافة، وحمل على عاتقه وهو لا يزال يحبو فى "سكة" الحقيقة قيما يبدو أنه ولد بها، لم يزرعها زارع، فقد كان هو الفلاح الصابر على بذرته حتى تشق الأرض شقًّا.
فى زاوية ضيقة كان يجالس عقله لينحت جملةً صحفيةً رشيقة وعلى فجأة يصرخ وجدتها.. وجد ضالته المنشودة.. فكرة تومض على حافة عقله اليقظ دومًا فيبدأ فى الكتابة. يخترق صوته مساحةَ الصمتِ السائدِ ليضيفَ على الساحة بهجةً وفرحًا وجدلا، جاء من أعماق التدين الشكلى ليثور عليه ويعارك نشأته التى تلقت تعليمًا دينيًّا أقرب إلى السلفية الجامدة.
مشهد النهاية
يعيد أيمن عبد التواب قراءة النصوص كما لو كان «كريستوفر كولومبوس» يكتشف أرضًا جديدة على كوكبٍ ظن الجميع أنه انتهى عند حدود معرفتهم بالجغرافيا القديمة. يخوض معارك فقهية ويقدمها بقراءات واعية ترفض الخضوع لصائغى النصوص العتيقة، يرفض عقل أيمن عبد التواب أن يظل هكذا وعاء توضع فيه أحجار على أنها الدر الميمون فيصطدم دون خوف بالممسكين على نار الجمود والتخلف.
يكتب التقرير الصحفى كما لو كان وارثه أبا عن جد، ويحقق في القضايا الشائكة وكأنه قاض فى أعلى محاكم الكلمة، ويجرى الحوار وكأنما هو لاعب شطرنج محترف، وينحت مقالا وهو ممسك بزمام الفكرة بين قبضة قلمه فى سحر عجيب.
أيمن عبد التواب الذى قضى معنا فى «فيتو» ومضة من الدهر يستطيع أن يعاركك مائة مرة فى اليوم، سواء كنت زميلا أو رئيسا للقسم أو رئيسا للتحرير، وأنت لا تملك إلا أن تطلب وصاله صديقا مائتى مرة.
أيمن الذى خاض آخر معاركه مع المرض الخبيث قدم للإنسانية تجربةً فريدة وهو يعارك الموت.. الموت يطرق الباب فيطل عليه أيمن من الشباك. وعندما أراد الموت أن يتسلل إلى أعماق أيمن وجده وقد فتح له الباب على مصراعيه.. ليصارعه ويسخر منه ويصوغ لنا واحدة من أعمق تجارب الإنسان مع الحياة.
وبين أيادى محبين يُحمَل أيمن أسبوعيا إلى حفل تعذيب «الكيماوي»، وعشاقه ومتابعوه وإخوة له فى المهنة والحياة ينتظرون «مفاجأة أيمن» مع الألم، وكيف سيضحك منه وعليه؟!
وفى مشاهد النهايات يكون للموت «هيبة وجلال» إلا مع كاتب ساخر بحجم أيمن عبد التواب.. ينقل إلى العناية المركزة، ويظل عقله متوقد الأفكار والأطروحات، فيكتب وصية يطالب فيها محبيه ورفاقه بألا «يمشوا» فى جنازته، وكأنه يفضل المواجهة منفردا دون ألم أو شجن.
يخط أيمن مقاله الأخير، وهو يصارع اللحظات الأخيرة فى الحياة الدنيا، وهو ينتقل ويحفر فى الجدار عابرا إلى الأبدية حيث لا نصب ولا ألم.. لا كذب ولا خداع.. يمضي أيمن فى مشهد النهاية منتصب القامة والهامة، فقد مر بالامتحان واجتاز الجدار، وأصبح الآن بين يدي من بيده كل شيء.
رحم الله «أيمن عبد التواب» بقدر ما منحنا من عبر ودروس وقيم ستظل بيننا تعيش كما عاش، وسوف يعيش فى قلوب من حفر بإيمانه اسمه فيهم، وهم كُثر.