سلسلة ما وراء التسريحة 6
مملكة النمل
في منتصف الطريق، لم يعد الصرصار ذو الرأس المبتور قادرا على مواصلة المشي، فتوقف فجأة وطلب مني أن أرحل، وحين رفضت صرخ في أن أنفذ طلبه «قبل أن يأتوا»، فمن هؤلاء الذين يحذرني من قرب قدومهم، ولماذا يخشى علي من ملاقاتهم؟!
مضيت في طريقي مخلفا ورائي نصف الصرصار، لكني أحسست بأني «عيل ناقص»، فكيف لي أن أترك ذلك المخلوق النبيل وحده، حتى وإن كان ذلك ما أراد هو، فقررت أن أعود لأكون إلى جواره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وحين عدت وجدت الصرصار يسير، لكنه كان يسير وهو مستلق على ظهره، فماذا حدث؟
لما دققت النظر، وجدت نحو عشرين حشرة ضخمة من النمل يحملون الصرصار، ويسيرون به نحو كهف قريب، أظنه مسكنهم.
سلسلة ما وراء التسريحة 5
كان الصراصر ضخما قياسا إلى حجم النمل، الذي بالطبع أراه نملا عملاقا، نظرا إلى أنني الآن رجل في حجم عقلة الأصبع، ومع ذلك كان من الغريب أن يتمكن هذا العدد الصغير من النمل من حمل صرصار يفوقهم في الوزن عشرات الأضعاف، لكنني تذكرت كل ما قرأته عن عالم الحشرات، إذ يمكن للنملة الواحدة أن تحمل ثلاثة أضعاف وزنها، فضلا عن قدرتها جر مئة ضعفها.
«سبحان الله»، هكذا تمتمت وأنا أشاهد ذلك المنظر، فما أضعف الإنسان مقارنة بهذه المخلوقات العجيبة، رغم ضآلة حجمها. رحت أراقب ما يحدث أمامي، متواريا خلف قطعة جبن سقطت من فوق التسريحة، فرغم أن حسنات زوجتي العقربة منظمة للغاية، إلا أن لها عادت قذرة لا تتخلى عنها، فهي مثلا تحتفظ بالكثير من الطعام في أماكن مختلفة، خاصة في غرفة النوم، إذ أنها عادة تقوم في جوف اليلل، وتسير وهي نائمة، فتتحسس ما حولها وتأكل ما تطاله يدها، وأتذكر ذات ليلة أنها عضتني من أذني، وراحت تمضغها تمهيدا لبلعها، كما تبلع الحية الكتكوت، لكن الله سلم وستر واستيقظت قبل أن تأكلها تلك المفترية.
من خلف قطعة الجبنة، راقبت ما يحدث، فوجدت النمل يسير حاملا الصرصار، بينما تتقدمه نملة، وأظنها أنثى بسبب مشيتها المتأنقة، بينما كانت تطالع ما حولها وهي تصدر صوتا يشبه مصمصة الشفاه، تعبيرا عن امتعاضها وعدم رضاها عن أداء الفريق التابع لها، وأظنه مكون من ذكور فقط، وذلك لأنني لاحظت في وجووهم ضحكات مكتومة، وكأنهم يسخرون من مديرتهم أو قائدتهم.
وصل النمل إلى الكهف، فأنزلوا الصرصار، وراحوا يقطعونه إلى أجزاء، فهذه ساق، وهذا جزء من جناح، وتلك قطعة من بطنه.. و..
كان الجميع يعملون بمهارة كبيرة، فهم يقضمون جسم الصرصار بأسنان تشبه المناشير، ويؤدون ذلك في سرعة وخفة، ثم جاء بعض النمل وشكل خطوطا طويلة لنقل تلك الأجزاء إلى الداخل، وهم يتحدثون إلى بعضهم البعض، ويغنون أغاني تتعلق بعملهم هذا.. إنها أغان توضح أماكن تخزين كل قطعة من الصرصار، ذلك الذي بات طعاما شهيا يكفي سكان الكهف لفترة ليست بالقصيرة من الشتاء القادم بعد أيام، حسب ما فهمت مما سمعت.
سلسلة ما وراء التسريحة (4)
وقد تسأل عن سر فهمي للغة النمل، فدعني أفسد عليك متعة السؤال، وأجيبك، فمنذ صرت في حجم عقلة الأصبع بت أعرف الكثير والكثير من الأسرار والأشياء عن عوالم كثيرة غريبة عني، ولا أدري السر في ذلك، لكن ربما لأنني صرت ضئيل الحجم فإن حواسي وقدراتي قد تضاعفت، فها أنا اسمع دبة النملة وأفهم لغتها.
والنمل لا يتحدث لغة تشبه تلك التي نتحدثها نحن البشر، بل إنهم يتفاهمون فيما بينهم باستخدام المواد الكيميائية المعروفة باسم الفيرومونات، حيث يتراسلون برسائل بسيطة تحمل تحذيرات من وجود خطر أو ترشد الآخرين منهم لأماكن الطعام.
دفعني الفضول لاستكشاف كهف النمل، إلى أن أدهن جسدي بالجبن، كي أتسلل إلى داخل المكان، وقد نجحت خطتي، حيث استلقيت على ظهري، فحملتني جموع النمل إلى الداخل ظنا منهم أنني قطعة جبن كبيرة، وفي غفلة منهم اختبأت في مكان يمكنني من مراقبتهم، ولعلي أجد داخل الكهف سلسلة مفاتيحي، فأنهي هذه المغامرة العجيبة وأعود إلى حياتي الطبيعية وحجمي الطبيعي.
بعد لحظات، وجدت بعض النمل يأتي محملا بيرقات من بيض النمل، فقلت في نفسي ربما هذه بيضات تخص نملة وضعتهم ثم ماتت، غير أنني فهمت من حديث المل أنهم في العادة قد يغيرون على بضهم البعض فيسرقون البيض، وحين يفقس وتتحول اليرقات إلى نمل يافع، فإن هذا النمل الأسير يصبح عبيدا يعمل في خدمة ملكة هذا الكهف..
يا الله، حتى في عالم النمل المثالي، الذي كنت أظنه مثالا للعدل والعمل، توجد حروب وسرقات وقرصنة وعبيد وأسياد!!
وبينما أنا أضرب كفا بكف، وجدت أمامي فجأة سرب من النمل، ينظر أفراد إلى ويحركون رؤوسهم وأعينهم في كل اتجاه، فهل حانت اللحظة لافتراسي؟!
سلسلة ما وراء التسريحة (3)
وقبل أن أغمض عيني كي لا أرى نهاتي، سمعت نملة تقول للباقين: «احملوا هذا المخلوق التافه إلى الحفرة».
في لحظات وجدتني في حفرة عميقة، وجسدي مكبل بخيوط كثيفة، بينما قائدة النمل الذي أسرني، راحت تستجوبني، فحكيت لها قصتي، لكنها لم تصدقني، وقالت عننا نحن معشر البشر نتنفس كذبا، فأقسمت لها، غير أنها قالت: «قالوا للحرامي أحلف»، قالتها وتخيلتها أنثى تلوك اللبان في فمها تمهيدا لصنع بالونة تفرقهعا في الهواء، كعادة حسنات زوجتي!
وحين تسائلت مندهشا: «وهل تعرفين أمثالنا أيضا؟!»، ردت النملة بأن غرور البشر يمنعهم من تصديق الحقيقة التي تقول إن هناك كائنات أذكى من الإنسان بكثير تحيا معه على نفس الكوكب.
وحين لاحظت هي عدم تصديقي لما أقول، ضحكت بدلال ممزوج بسخرية وقالت: «أظنك رأيتنا ونحن نحمل الصرصار ذي الرأس المبتور»، فأومأت برأسي مؤمنا على كلامها، فواصلت هي: «وطبعا تظن أننا نفعل ذلك من أجل تأمين طعام يكفينا للشتاء؟»، فأومأت مرة أخرى موافقا على كلامها، وهنا رقعت هي ضحكة اهتز لها الكهف، وقالت: «شوف يادلعادي.. نحن نساعد البشر في كثير من الأمور لكنهم لا يعلمون، أو لنقل أن غرورهم يمنعهم من تصديق ذلك».
نظرت للنملة في ريبة، فأضافت وهي تقضم أظافرها: «ذلك الصرصار، ترى لو ظل على حالة، جثة بلا حراك، فكيف للبيئة أن تستعيد مكوناته التي تتحلل لتعود إلى التربة، فنحن وكذلك الميكروبات والديدان والبكتريا نعيد للتربة تلك الأشياء كي تستمر الحياة.. ثم..».
وقبل أن تكمل من بعد ثم هذه، جاء ذكر نمل، وهمس في أذن النملة التي كانت تحادثني، فنظرت نحوي بنظرة فرح ممزوجة بشفقة، وقالت: «يبدو أنه قد آن لك أن تعود»، فقلت لها «أعود؟ تقصدين أنكم ستحرروني؟!»، لكنها رقعت ضحكة أخرى اهتز لها الكهف، وردت «لا، بل ستعود إلى الطبيعة يا روح مامي»، وأخذت تقترب مني يتبعها جموع من النمل، بينما أنا أترحم على بخيت الذي لم يكن يوما «بخيتا»، وصرخت «افرحي يا حسنات»..
في منتصف الطريق، لم يعد الصرصار ذو الرأس المبتور قادرا على مواصلة المشي، فتوقف فجأة وطلب مني أن أرحل، وحين رفضت صرخ في أن أنفذ طلبه «قبل أن يأتوا»، فمن هؤلاء الذين يحذرني من قرب قدومهم، ولماذا يخشى علي من ملاقاتهم؟!
مضيت في طريقي مخلفا ورائي نصف الصرصار، لكني أحسست بأني «عيل ناقص»، فكيف لي أن أترك ذلك المخلوق النبيل وحده، حتى وإن كان ذلك ما أراد هو، فقررت أن أعود لأكون إلى جواره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وحين عدت وجدت الصرصار يسير، لكنه كان يسير وهو مستلق على ظهره، فماذا حدث؟
لما دققت النظر، وجدت نحو عشرين حشرة ضخمة من النمل يحملون الصرصار، ويسيرون به نحو كهف قريب، أظنه مسكنهم.
سلسلة ما وراء التسريحة 5
كان الصراصر ضخما قياسا إلى حجم النمل، الذي بالطبع أراه نملا عملاقا، نظرا إلى أنني الآن رجل في حجم عقلة الأصبع، ومع ذلك كان من الغريب أن يتمكن هذا العدد الصغير من النمل من حمل صرصار يفوقهم في الوزن عشرات الأضعاف، لكنني تذكرت كل ما قرأته عن عالم الحشرات، إذ يمكن للنملة الواحدة أن تحمل ثلاثة أضعاف وزنها، فضلا عن قدرتها جر مئة ضعفها.
«سبحان الله»، هكذا تمتمت وأنا أشاهد ذلك المنظر، فما أضعف الإنسان مقارنة بهذه المخلوقات العجيبة، رغم ضآلة حجمها. رحت أراقب ما يحدث أمامي، متواريا خلف قطعة جبن سقطت من فوق التسريحة، فرغم أن حسنات زوجتي العقربة منظمة للغاية، إلا أن لها عادت قذرة لا تتخلى عنها، فهي مثلا تحتفظ بالكثير من الطعام في أماكن مختلفة، خاصة في غرفة النوم، إذ أنها عادة تقوم في جوف اليلل، وتسير وهي نائمة، فتتحسس ما حولها وتأكل ما تطاله يدها، وأتذكر ذات ليلة أنها عضتني من أذني، وراحت تمضغها تمهيدا لبلعها، كما تبلع الحية الكتكوت، لكن الله سلم وستر واستيقظت قبل أن تأكلها تلك المفترية.
من خلف قطعة الجبنة، راقبت ما يحدث، فوجدت النمل يسير حاملا الصرصار، بينما تتقدمه نملة، وأظنها أنثى بسبب مشيتها المتأنقة، بينما كانت تطالع ما حولها وهي تصدر صوتا يشبه مصمصة الشفاه، تعبيرا عن امتعاضها وعدم رضاها عن أداء الفريق التابع لها، وأظنه مكون من ذكور فقط، وذلك لأنني لاحظت في وجووهم ضحكات مكتومة، وكأنهم يسخرون من مديرتهم أو قائدتهم.
وصل النمل إلى الكهف، فأنزلوا الصرصار، وراحوا يقطعونه إلى أجزاء، فهذه ساق، وهذا جزء من جناح، وتلك قطعة من بطنه.. و..
كان الجميع يعملون بمهارة كبيرة، فهم يقضمون جسم الصرصار بأسنان تشبه المناشير، ويؤدون ذلك في سرعة وخفة، ثم جاء بعض النمل وشكل خطوطا طويلة لنقل تلك الأجزاء إلى الداخل، وهم يتحدثون إلى بعضهم البعض، ويغنون أغاني تتعلق بعملهم هذا.. إنها أغان توضح أماكن تخزين كل قطعة من الصرصار، ذلك الذي بات طعاما شهيا يكفي سكان الكهف لفترة ليست بالقصيرة من الشتاء القادم بعد أيام، حسب ما فهمت مما سمعت.
سلسلة ما وراء التسريحة (4)
وقد تسأل عن سر فهمي للغة النمل، فدعني أفسد عليك متعة السؤال، وأجيبك، فمنذ صرت في حجم عقلة الأصبع بت أعرف الكثير والكثير من الأسرار والأشياء عن عوالم كثيرة غريبة عني، ولا أدري السر في ذلك، لكن ربما لأنني صرت ضئيل الحجم فإن حواسي وقدراتي قد تضاعفت، فها أنا اسمع دبة النملة وأفهم لغتها.
والنمل لا يتحدث لغة تشبه تلك التي نتحدثها نحن البشر، بل إنهم يتفاهمون فيما بينهم باستخدام المواد الكيميائية المعروفة باسم الفيرومونات، حيث يتراسلون برسائل بسيطة تحمل تحذيرات من وجود خطر أو ترشد الآخرين منهم لأماكن الطعام.
دفعني الفضول لاستكشاف كهف النمل، إلى أن أدهن جسدي بالجبن، كي أتسلل إلى داخل المكان، وقد نجحت خطتي، حيث استلقيت على ظهري، فحملتني جموع النمل إلى الداخل ظنا منهم أنني قطعة جبن كبيرة، وفي غفلة منهم اختبأت في مكان يمكنني من مراقبتهم، ولعلي أجد داخل الكهف سلسلة مفاتيحي، فأنهي هذه المغامرة العجيبة وأعود إلى حياتي الطبيعية وحجمي الطبيعي.
بعد لحظات، وجدت بعض النمل يأتي محملا بيرقات من بيض النمل، فقلت في نفسي ربما هذه بيضات تخص نملة وضعتهم ثم ماتت، غير أنني فهمت من حديث المل أنهم في العادة قد يغيرون على بضهم البعض فيسرقون البيض، وحين يفقس وتتحول اليرقات إلى نمل يافع، فإن هذا النمل الأسير يصبح عبيدا يعمل في خدمة ملكة هذا الكهف..
يا الله، حتى في عالم النمل المثالي، الذي كنت أظنه مثالا للعدل والعمل، توجد حروب وسرقات وقرصنة وعبيد وأسياد!!
وبينما أنا أضرب كفا بكف، وجدت أمامي فجأة سرب من النمل، ينظر أفراد إلى ويحركون رؤوسهم وأعينهم في كل اتجاه، فهل حانت اللحظة لافتراسي؟!
سلسلة ما وراء التسريحة (3)
وقبل أن أغمض عيني كي لا أرى نهاتي، سمعت نملة تقول للباقين: «احملوا هذا المخلوق التافه إلى الحفرة».
في لحظات وجدتني في حفرة عميقة، وجسدي مكبل بخيوط كثيفة، بينما قائدة النمل الذي أسرني، راحت تستجوبني، فحكيت لها قصتي، لكنها لم تصدقني، وقالت عننا نحن معشر البشر نتنفس كذبا، فأقسمت لها، غير أنها قالت: «قالوا للحرامي أحلف»، قالتها وتخيلتها أنثى تلوك اللبان في فمها تمهيدا لصنع بالونة تفرقهعا في الهواء، كعادة حسنات زوجتي!
وحين تسائلت مندهشا: «وهل تعرفين أمثالنا أيضا؟!»، ردت النملة بأن غرور البشر يمنعهم من تصديق الحقيقة التي تقول إن هناك كائنات أذكى من الإنسان بكثير تحيا معه على نفس الكوكب.
وحين لاحظت هي عدم تصديقي لما أقول، ضحكت بدلال ممزوج بسخرية وقالت: «أظنك رأيتنا ونحن نحمل الصرصار ذي الرأس المبتور»، فأومأت برأسي مؤمنا على كلامها، فواصلت هي: «وطبعا تظن أننا نفعل ذلك من أجل تأمين طعام يكفينا للشتاء؟»، فأومأت مرة أخرى موافقا على كلامها، وهنا رقعت هي ضحكة اهتز لها الكهف، وقالت: «شوف يادلعادي.. نحن نساعد البشر في كثير من الأمور لكنهم لا يعلمون، أو لنقل أن غرورهم يمنعهم من تصديق ذلك».
نظرت للنملة في ريبة، فأضافت وهي تقضم أظافرها: «ذلك الصرصار، ترى لو ظل على حالة، جثة بلا حراك، فكيف للبيئة أن تستعيد مكوناته التي تتحلل لتعود إلى التربة، فنحن وكذلك الميكروبات والديدان والبكتريا نعيد للتربة تلك الأشياء كي تستمر الحياة.. ثم..».
وقبل أن تكمل من بعد ثم هذه، جاء ذكر نمل، وهمس في أذن النملة التي كانت تحادثني، فنظرت نحوي بنظرة فرح ممزوجة بشفقة، وقالت: «يبدو أنه قد آن لك أن تعود»، فقلت لها «أعود؟ تقصدين أنكم ستحرروني؟!»، لكنها رقعت ضحكة أخرى اهتز لها الكهف، وردت «لا، بل ستعود إلى الطبيعة يا روح مامي»، وأخذت تقترب مني يتبعها جموع من النمل، بينما أنا أترحم على بخيت الذي لم يكن يوما «بخيتا»، وصرخت «افرحي يا حسنات»..