حواديت الميكروباص
بينما يحتاج سائق الميكروباص إلى ساعة كي يصل إلى ميدان التحرير، تكفيني ثانية كي يحملني خيالي إلى الخرطوم أو بيروت ودمشق وبغداد والرباط وبرلين وباريس وبكين.. أشرب القهوة مع حسناء هنا وأدخن السيجار مع رفيق هناك وأتناول الدجاج المشوي بين هذا وذاك..
لكن شيئا لا يدوم فـ «ناقص
واحد ما دفعش الأجرة» تعيدني إلى الميكروباص في لمح البصر.. لأعيش حكايات واقعية لا
ينقصها الخيال.
1
بتوصية من حكمدار
الموقف تمكنت السيدة الخمسينية، والتي تبدو موظفة حكومية على درجة مدير عام، من الفوز
وحدها بالمقعدين المجاورين لسائق الميكروباص، والذي سبق وأن شخط في أحدهم حين أراد
أن يفتح الباب الأمامي: «ما قلنا محجوز، معايا ناس.. إيه مبتفهموش!!»..
إلى هنا والأمور
تسير على ما يرام، فهذا مشهد معتاد.. لكن بعد انطلاق السيارة
بدقائق اضطر السائق إلى أن يخفض صوت الراديو ليغيب صوت المقرئ ويصبح مجرد خلفية لقادم
الكلام..
وكان السائق اضطر
لفعل ذلك من أجل الاستماع إلى جملة قالتها السيدة التي تجلس إلى جواره بصوت عريض يكفي
لفرش ملعب كرة كبير.. لا أتذكر كيف تحولت
الجملة إلى حلقة توك شو، فيظهر والله أعلم أن السيدة تعمل موظفة إدارية في ماسبيرو
وهي تشعر أن المذيعين والمذيعات - الأحياء منهم والأموات - ليس بينهم من هو أفضل منها،
وربما تؤمن هي أنها جديرة بساعة أو أكثر على الهواء كي تمنح المستمعين والمشاهدين من
علمها ورأيها ما يعينهم على فهم الأمور والعيش في سؤدد..
وفي الطريق تحول
الركاب إلى مستمعين ينصتون لكلام السيدة المذيعة الجالسة في قمرة القيادة إلى جانب
السائق، الذي تحول بدوره إلى ضيف مضطر لتقبل كلامها دون تعقيب، ولم يكن مسموحا له
- بدون اتفاق طبعا - إلا أن يرد عيلها بعبارات مقتضبة مثل (الله ينور عليكي - يا سلام
- مسسسسسسم - آه والله)..
تحدثت المذيعة في
الحلقة الفريدة عن الأسعار والسياسية وكلام المسئولين والجامع والكنيسة ولم يسلم الأمر
من التطرق إلى حكايات الفنانات والمشاهير.. عن الفساتين والمكياج، لكنها والشهادة لله
لم تقترب من كرة القدم ولم تذكر اسم حبيبنا صلاح..
وقبل أن نصل لمحطة
النهاية، ختمت الست المذيعة كلامها بعبارة no comment وشرحتها بالعامية «معنديش تعقيب أقوله».. فتحت السيدة باب
الميكروباص ثم مضت في طريقها إلى مبنى ماسبيرو، بينما صرخ السائق فينا «آخري كوبري
أكتوبر يا حضرات مش داخل الموقف»، لكن أحدا منا لم يفتح فمه بكلمة، فقد تيقنا أننا
خسرنا السائق الكيوت حين انتهى البرنامج ونزلت المذيعة..
2
بينما كان الميكروباص
يسير في خط مستقيم بسرعة كبيرة لكنها ثابتة، فجأة انعطف السائق يمينا فيسارا - غرزة
يعني - بين السيارات، فشعرت وكأنني زجاجة بيبسي في يد عيل رخم يرجها لتفور في وجوه
أقرانه.
ولم أنتبه لما حدث إلا عندما ساد الهرج والمرج بين باقي الركاب، فصاح أحدهم «ما تحاسب يا سطى معاك بني آدمين.. مش بهايم احنا»، أما العجوز الجالسة إلى جواري فقالت وهي تلملم هدوءها الذي تبعثر «قدر ولطف» فيما دعت من كانت إلى جوارها للسائق بأن يستر الله طريقه..
أما الجنتلمان
الجالس في المقعد الأمامي وحده فرمق الركاب الغاضبين بنظرة حادة وهو يتحدث من طرف مناخيره
«ما خلاص يا جماعة كنتوا عاوزين الراجل يدخل بالعربية في الحفرة اللي ظهرت فجأة دي
يعني!!»، فكافأه السائق بنظرة وابتسامة شاكرا إياه على «التطبيلة» المجانية التي غالبا
ما يقوم بها الجالس إلى جوار السائق في كل الأحوال وكأن الركاب دوما فريق والسائق وجاره
فريق آخر..
استمر السائق في طريقه ولم تنقطع الهمهمات المكتومة الغاضبة بين الناس، وحين نزل الجنتلمان بدا السائق كقائد فقد حلفاءه في خضم المعركة، فهتف في الجموع وهو يرفع يده اليمنى «آسف يا جماعة والله غصب عني»، فتبدل الحال وهدأ الزبائن وباتوا جميعا في صفه «الحمد لله جات سليمة.. ربنا يستر طريقك».
3
الميكروباص
بلا أحاديث جانبية، أشعر وكأنني أسكن إحدى المدن الجديدة، لا أحد هنا يعرف الآخر والصمت
هو اللغة الرسمية.. الآن سيدة
معلقة بين الثلاثين والأربعين ببلوزة تحوي ثلاثة أرباع ألوان العالم تطارد ذبابة غبية
نجحت في اقتحام السيارة قبل إغلاق آخر نوافذها..
وهذا رجل بجاكيت جلد أسود رن هاتفه فنظر إلى الشاشة ثم أعاده إلى مكانه ورجع لمراقبة الطريق عبر الزجاج المغبش.. شكرا للسائق الذي يؤمن بأن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدا.