رئيس التحرير
عصام كامل

عجوز يكتب التاريخ على حذاء

لدي طريقة قد تبدو غريبة للتعرف على حقيقة الأماكن التي أعيش فيها، إذ أبحث أولا عن الصناع وأصحاب الحرف والمهن الذين يتسمون بذوق الفنان في عملهم، فوجودهم يعني أنك تحيا في مدينة أصيلة.

وفور وصولي إلى هذه المدينة الكبيرة، آتيا من بلدتي الصغيرة، تجولت في شوارعها بحثا عن «بويجي» أو من تسمونه «مساح الأحذية» فوجدت أحدهم.

 

كان رجلا عجوزا يجلس إلى صندوق خشبي قديم، بين شفتيه بعض سيجارة يبتلع دخانها في بطنه، حتى لا يختلط ببخار الماء الذي تنفثه أفواه المارة على عجل، وقد أمسك في يده اليمنى فرشاة عريضة يغمسها في الورنيش ثم يمسح بها حذاء الرجل الذي يضع قدمه اليسرى على الصندوق.

 

كانت اليد اليمنى للعجوز تمارس عملها، بينما الأخرى تتأرجح في الهواء وكذا رأسه المعمم، في تمازج مدهش، يجعلك تظن أنك أمام مايسترو يقود أوركسترا في دار الأوبرا، وقد عزز الصورة لحنا بديعا لمقدمة أغنية قديمة ينساب من الراديو الأنتيك، الذي يضعه الرجل إلى جواره.

 

اقرأ أيضا : عزيزى قاضى البلاج

 

الفنان وحده من يحب صنعته ويتقنها ويمارسها بقلبه قبل يديه وعقله، هو ومن مثله يختلفون تماما عن هؤلاء الذين يمارسون المهن والحرف والأعمال من باب «أكل العيش».

 

وفي المدن «الرخيصة» التي ليس لها تاريخ، ينتشر «آكلو العيش»، أما تلك الأصيلة فيزينها مثل هذا العجوز الفنان، الذي يبحث عن الشقوق في الأحذية ليسدها سترا «للمركوب» البالي، فيحيل عبوس الواقف أمامه إلى ابتسامة رضا تكسو الوجه الذي به من الشقوق ما يفوق هذا الحذاء الذي جاب الدنيا طولا وعرضا.

 

اقرأ أيضا: كيف تتجنب صدمات النهايات؟

 

يفرح البويجي الأصيل بلمعة عين الزبون عندما يرى الحياة وقد دبت مجددا في حذائه، أكثر من فرحته بتلك القطع المعدنية التي يدسها في يده الرجل الممسك بجريدة يتصفحها في سرعة، فالمال أجرة أما ابتسامة الرضا فهي مكافأة وشهادة بأنه فنان.

 

واقرأ أيضا : صديقي المحللاتي

 

يضرب الفنان العجوز بظهر فرشاته الخشبي على الصندوق، ودون تردد يرفع الزبون قدمه ليضع القدم الأخرى بدلا منها، كي يبدأ البويجي عمله في فردة الحذاء الأخرى، ليعيد إلى بشرتها الحياة بلمساته الساحرة، مستخدما صبغة وورنيش، فينظف الجلد ويملأ فراغات شقوقه ثم يلمعه بخرقة من القماش، كان قد اقتطعها من جلباب قديم لامرأته.

 

وعلى بعد عشرات الأمتار، يقف ذلك المبنى الحديث الشاهق تعلوه لافتة تقول إنه فندق يعلق على أكتافه خمس نجمات، يعج بالغرف والممرات والصالات وأماكن أخرى لتقديم مختلف الخدمات، ومن بينها ماسح أحذية آلي، أو لنقل ماكينة تضع أمامها قدمك فيتم تلميع حذائك في ثوان.. وستلاحظ أن الحذاء يلمع، لكنه مع ذلك يبدو مطفيا بلا روح!!

 

خارج الفندق، يواصل ماسح الأحذية عمله في مكانه، بينما الناس يدورون حوله وكأنما تحول هو إلى مركز الكون، وهم أجرام سماوية تتحرك في نظام لا يختل.. هم خليط من سكان المدينة وهؤلاء الذين يأتونها من بعيد بحثا عن عمل أو لأداء مهمة مؤقتة ثم سرعان ما يعودون إلى حيث أتوا.. هم متغيرون وهو ثابت.. فهو ومن مثله من الصناع الفنانين شهود  وشهداء.. شهود على تاريخ المدينة العتيقة وفنونها وسيرتها، وشهداء تغتالهم التكنولوجيا ولغة المال والأعمال التي تقدس المبنى وتلعن الباني الذي يبحث عن لقمة عيش في صندوق الماضي.

الجريدة الرسمية