كل تطبيع وأنتم بخير
أفهم أن حالة من
استسهال التطبيع مع إسرائيل باتت تسيطر على دول عربية، خاصة بالخليج البترولي، سبقتها
بالتأكيد دول إسلامية أبرزها الطامحة فى استعادة أمجادها الإمبراطورية تركيا، لكن لا
أفهم كيف لا تعي قيادات تلك الدول الدرس من تجربة التطبيع "الفوقي" المجمدة
شعبيا منذ أربعة عقود.
بالأمس أعلنت مملكة
عربية عن تلك الخطوة من جانبها، فى اتفاق ثلاثي كالعادة يرعاه ترامب، وردت القيادة
الفلسطينية ببيان استنكار ورفض واستدعت خارجيتها سفير فلسطين لدى عاصمة تلك المملكة،
مؤكدة أن هذا الإجراء "خيانة للقدس والأقصى والقضية الفلسطينية، ويمثل دعماً لتشريع
جرائم الاحتلال الإسرائيلي البشعة ضد الشعب الفلسطيني والمقدسات الإسلامية والمسيحية،
ويشكل نسفاً للمبادرة العربية للسلام وقرارات القمم العربية والإسلامية، والشرعية الدولية".
وجددت تأكيدها على
أنها "لم ولن تفوض أحداً للحديث باسمها، وأن السلام والاستقرار في المنطقة لن
يتحقق إلا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية كافة، ونيل الشعب
الفلسطيني استقلاله في دولته ذات السيادة على حدود الرابع من حزيران عام 1967، بعاصمتها
القدس الشرقية وحل قضية اللاجئين على أساس القرار الأممي 194".
الخطوات العربية
المتسارعة نحو التطبيع مع إسرائيل، بعد الإجراء الخليجي الشبيه القريب فى هذا الخصوص،
تبدو متجاهلة أمرين مهمين، أولهما أن الحقوق الفلسطينية خاصة وثابتة بقرار فلسطيني
قبل أن يكون عربيا جامعا، وهو ما يعني أن هذه الاتفاقيات تتجاهل القضية الفلسطينية
تماما أو لا تملك تصورا لاحترام حق أصحابها فى رفض المزايدات عليها من قبل المهرولين
نحو تل أبيب.
والثاني؛ أن تجربة
نظام السادات فى عقد اتفاقية مع إسرائيل لم تثمر شيئا إيجابيا بشأن القضية الفلسطينية
والأراضي العربية المحتلة، لعدم قدرته وقتئذ على تحريك التفاوض الجماعي وعدم قراءته
لأهداف القابع فى البيت الأبيض، وهو ما انتهى به إلى مقاطعة عربية ورفض شعبي داخلي
مستمر حتى الآن بتجميد كل القوى المدنية ورفضها التطبيع مع إسرائيل.
لا لوم من طرفنا
على من يصافحون مجرمين قتلة بحكم تاريخهم الدموي فى 1948 وما قبلها، وفى 1956 مشاركين
عواجيز الاستعمار البريطاني والفرنسي عدوانهم على مصر، وفى يونيو 1967 حينما احتلوا
سيناء والجولان والأراضي العربية، واستمروا فى قتل الأطفال واعتقال المقاومين وانتهاك
حرمات ومقدسات، فهؤلاء تضعهم الشعوب فى طريق آخر لا علاقة له برؤيتها.
لكن فى ظني أن قاعدة
بيانات المطبعين تتسع ولن تتوقف معها أنظمة فى الإعلان عن اتفاقيات جديدة مع إسرائيل،
فمع حالة الاستسهال تعيش أيضا حالة من "الاستهبال" بذكرها سيرة القضية الفلسطينية
وتصوير شعبها كمستفيد ومخدوم من عملية التطبيع، وتلك أكذوبة تفضحها مواقف فلسطين قيادة
وشعبا.
لم أشارك بالتصويت.. ودليل البراءة عندكم
ليس فى مقدور أحد
صراحة إيقاف قرارات منفردة بتعامل وتعاون مع تل أبيب، خاصة وأن الجامعة العربية تتباين
تحت سقفها الأدوار أحيانا ولا تغيب فى كل مرة بيانات الشجب والاستنكار البروتوكولية
بحسب طبيعة الحدث، لكن إعلان أنظمة دول أعضاء فيها عن تلك الخطوات مع العدو الأول لشعوبها،
يشجع دون خجل حكومات دول أخرى غير عربية، فى القارتين بالأخص، على اتخاذ خطوات مماثلة
حال رأت فى مصافحة الصهاينة منفعة قريبة ولو على حساب شعوب أخرى غير الشعب الفلسطيني.
لم تعد قيمة اتفاقيات
التطبيع مع إسرائيل فى الحديث عن مستقبل لحكومات تلك الدول والممالك، بقدر ما تباشره
من مزايدات على القضية الفلسطينية أو إنكار لها وتجاهل حقوق أصحابها، وتلك مسألة أخلاقية
تماما لا تنكرها السياسة الدولية للحكومات إن أرادت لنفسها سمعة تليق بها فى مجتمع
مفتوح.
جملة حصاد تلك الخطوات
المتلاحقة فى التطبيع مع إسرائيل تؤكد بالضرورة على ثبات مفهوم المقاومة فى العقل الجمعي
الفلسطيني، وتدعم دون شك حقيقة أن تحرير الأرض المحتلة حق يناله المناضلون بكل السبل،
دون انتظار شهادة اعتماد من الغير، ويرسخ حقيقة أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة،
طالما أن عقودا من خيبات السلام لم نعرف خلالها طريقا مضيئا لتحرير الأرض سوى بالمقاومة،
وبعد أن ابتسم المتعجرفون فى وجوه المتنطعين ساخرين "كل تطبيع وأنتم بخير".