الحياة عن بعد.. والموت أيضاً
بهدوء وتوتر مكتوم أصبحنا نمارسها بخوف من مجهول، وأصبحت العلاقات الاجتماعية معها شيئاً من الماضي، إن لم تكن غير مستحبة.
إنها الحياة عن بعد، التي نمضي فيها مضطرين بفعل فيروس لم يقدر عليه العالم المتقدم ولم يستوعب نظيره المتخلف أيا من دروسه حتى تعيد حكوماته تقييم نظرتها للعلم.
دول رغم صعودها وتسيدها تناطح منظومات حكمها بعضها متبادلة الاتهامات بتخليقه، وأخرى تتهاوى قدرات مؤسساتها ويتراجع نفوذها وتستعد لتكهين عتادها داخل أكبر قواعدها العسكرية في حرب التركيع البيولوجية المتوقعة.
داخل الأقطار؛ اكتفاء ذاتي بالمشكلات إلا فى مناطق أرادها الحمقى مشتعلة تسود مع دخان معاركها وجوه سكانها، و في كل مدينة و حي سكون مرتبكة معه كل خطوة يفكر صاحبها ألف مرة قبل أن يتقدم بها نحو مالا تدركه عيناه.
اقرأ ايضا: دروس من الأزمة.. كورونا مجرد بداية
مجتمعات لم تعد تفكر في تقارب ولا تنصحها حكومات به، وقرارات تبدو متخبطة هنا وهناك بشأن عودة الحياة لطبيعتها أو انقطاعها وانفصال الأحياء عن أنفسهم وذويهم، ولا أكثرمن بيوت خربت جراء توترات مفتعلة في نطاقات تضيق على أهلها.
حكومات تطلق هنا حملة داعية للبقاء في البيوت تدعو للتباعد الاجتماعي وسط شبه حظر، ثم تجد نفسها في حرج مع قرار مناقض يدعو الناس للعودة والاختلاط دعما لعجلة إنتاج للمادة؛ مع الحفاظ على التباعد الاجتماعي، رغم أنه؛ بالذات؛ أصبح واقعا بحكم طبيعة منظومتي الاقتصاد والتشريع.
حكومة تعتمد تعديلا يجيز تدريس المناهج الدراسية إلكترونياً بنظام "التعليم عن بعد"، في محاولة للتعامل مع التحديات التي فرضتها الأزمة، وإجراء الاختبارات إلكترونياً بحسب طبيعة الدراسة والبنية التحتية والإمكانات التكنولوجية لكل مؤسسة، وتصر فى نقرة أخرى على استكمال إجراءات امتحانات شهادات مدرسية وجامعية دون ضمانات واضحة لحماية الطلاب.
اقرأ ايضا: يتعاملون بصدق مع مهام عملهم
وكأن القرارات تتخذ أيضا عن بعد، كقرارات شراء سلع مجهولة الجودة أو المصدر "أون لاين"، وكأن متخذيها لا يلتفتون إلى أصحاب المصلحة والحقوق، هكذا تتكرر الأزمة فى مؤسسات مجتمع مدني ونقابات وجدت مجالسها فى مواجهة انتشار الفيروس بين أعضائها وعائلاتهم غلق مبانيها فى وجوههم وإيقاف خدمات متعددة داخلها.
عن بعد؛ صار العلاج أيضا وباتت نصائح الأطباء عبر الهاتف مطلوبة وكنا نسخر منها حتى وقت قريب ونثير جدلا حولها، حتى صرنا نتندر عليها عبر مواقع التناحر الإلكتروني ونتوقع بسخرية قيامنا بإجراء عمليات جراحية لبعضنا داخل البيت الواحد بنصائح طبيب عبر الفيديو شات.
عن بعد تستكمل علاقات العمل والعلاقات الدولية كذلك خطواتها نحو مصير غير مشترك رغم الجائحة، وليس أدل على ذلك من فجوة بين منظمات دولية؛ وتعاون ودعم مطلوبين لأنظمة تنشد العون لشعوبها، أو حكومات دول تستبعد عمالة استقدمتها من آخر الدنيا لتطوير الحياة داخلها يوما ما.
اقرأ ايضا: تحرير عقود الزواج هل يصبح حلا؟
عن بعد؛ تتم الزيجات وتقدم العزاءات بعد غياب مشاهد الجنازات، وينسحب الشعور بالإنتماء للعائلات ولا عنوان لآهات ولا مساحة لذكريات أو مستقبل لأمنيات، الكل قصرت فى سيرته الحكايات.
الحياة عن بعد ستطول مع غموض كبير حول مصير الفيروس المدمر وتطور الحروب وتبادل الكبار الصفعات، لكن لا نفهم لماذا نتجاهل التفكير بشكل جماعي فى وقفة ضرورية مع النفس لوجه أوطاننا، ربما كان الابتلاء فرصة لإلتقاط الأنفاس بهدوء وبطء يتفقان وحاجتنا إلى إعادة التفكير فى المستقبل.
لو أن التفكير الأحادي تمكن منا دون صندوق يحول الأمين عليه ظنوننا إلى رؤى وهواجسنا إلى فروض لمعادلات جديدة محتملة، أو أن رأس الطاولة خلت أمامها مقاعد المناقشين للمستقبل، لانعدم مبرر وجودنا وأصبحنا على شفا حفرة من الموت؛ عن بعد أيضا.
