نحن ما بعد كورونا!
انتهيت من قراءة كتاب مهم عن وباء الطاعون الذى ضرب الإمبراطورية الرومانية عام 540 ميلادية وتكرر ظهوره كل عدة سنوات حتى نهاية القرن السابع الميلادي.. الكتاب الذى ترجمه الصديق وزميل الدراسة والجيش الدكتور نصارعبدالله مع دكتور أسامة عبدالمقصود نصار.
اختار له مؤلفه وليام روزين عنوانا معبرا، هو (براغيث جستنيان.. الوباء العظيم الأول ونهاية الإمبراطورية الرومانية).. أما جستنيان فهو الإمبراطور الروماني وقتها.. أما البراغيث فهى كائن ضئيل إذا أصابه نوع خاص من البكتريا ينقلها إلى الفئران، ويسبب موت أعداد كبيرة منها.
اقرأ أيضا: كورونا وعذاب السفر!
وبعد أن صارت البكتريا أكثر فتكا، انتقلت البراغيث إلى مهاجمة الإنسان.. وقد حدث قبلها بأربع سنوات أن شهد العالم العديد من الثورات البركانية أدت إلى انخفاض درجات الحرارة، وهذا أدى إلى انتقال تلك البراغيث المحملة بالبكتريا المهلكة من شرق أفريقيا وإثيوبيا إلى مصر.
حيث ظهرت لأول مرة فى الفارما بالقرب من بورسعيد ومنها انتقلت إلى الإسكندرية التى كانت أحد المواني الرئيسية لتصدير الحبوب إلى مدن الإمبراطورية الرومانية، حيث كانت هذه السفن تحمل على متنها فئرانا حية وميتة والبراغيث المحملة بالميكروب.. وبذلك أصاب الطاعون أرجاء الإمبراطورية الرومانية.
ويرى المؤلف أن هذا الطاعون الذى قضى على نحو ٢٥ مليون شخص كان أحد أسباب سقوط الامبراطورية الرومانية، لأنه أسهم فى إضعافها بشدة بعد أن أباد مدنا بأكملها، فى الوقت الذى كانت فيه قوة أخرى صاعدة انطلقت من الجزيرة العربية التى نجت من الطاعون، هى قوة الدولة الإسلامية الوليدة.. التى غزت عدة بلاد كانت تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية شملت مصر وفلسطين وسوريا وليبيا وإيران والعراق وإسبانيا.
اقرأ أيضا: نهاية كورونا!
وسواء كان ما انتهى إليه مؤلف الكتاب المثير حول دور جائحة الطاعون فى سقوط الإمبراطورية الرومانية صحيحا أوغير دقيق، فإنه يكفى أن قراءة هذا الكتاب تنبهنا إلى أن الجوائح ليست جديدة على البشرية.. الطاعون وحده صنع للبشر ثلاثة جوائح كبيرة فى العصر الحديث.
وهذه الجوائح دوما قاسية على البشر ومدمرة وقاتلة لهم.. وهى لا تستغرق أياما أو أسابيع أو شهورا إنما تمتد إلى سنوات وتأتى عادة على موجات.. والتخلص منها لا يتم سريعا، وإن كان التقدم العلمى الذى أحرزه البشر سيكون له تأثير فى اختصار زمن جائحة كرونا التى نعيشها الآن.
ولهذه الجوائح تأثيرات سياسية واقتصادية واجتماعية.. فهى تضعف قوى عظمى، وتخلف خسائر اقتصادية ضخمة، وتغير من شكل الحياة بعد انتهائها.. لكن من يقرأ تاريخ العالم كله ولا يكتفى بتاريخ الجوائح التى تعرض لها سوف يكتشف أن تغير شكل حياة البشر بعد الجوائح لا يطال جوهر هذه الحياة..
اقرأ أيضا: كورونا تزيد الصراع العالمي!
لقد استمر جوهر حياة البشر دوما هو الصراع الذى لا ينتهى ولا يهدأ ويتخذ أشكالا مختلفة منها السياسى، ومنها الاقتصادى، ومنها العسكرى، ومنها أيضا التكنولوجى وكذلك الدعائى.. الجوائح لا تَخَلق المدينة الفاضلة التى يسودها الخير ولا مكان فيها للشر وأهله.
لذلك علينا ألا نتوقع نحن البشر عالما جديدا بعد كورونا يسوده الأمن والسلام وتروج فيه القيم الإيجابية.. قيم الحق والخير والجمال والعدل والمساواة والتسامح واحترام الآخر.. وإنما نتوقع عالما تشتد فيه الصراعات، خاصة وإن جائحة كرونا لم ينج منها أحد من القوى المتصارعة على النفوذ فى العالم.
وطالت خسائرها البشرية والاقتصادية كل العالم.. أى إنها صراعات بين جرحى، سيكسبها الاكثر قدرة على التحمل.. بل إن الصراعات بدأت بالفعل مبكرا ونحن لم نتخلص من تلك الجائحة ومازلنا نكافحها، ولا نعرف متى تنتهى!