الحمقى في زمن الأوبئة
أزمة كورونا أكدت أن البشر ضعفاء أمام أصغر الأشياء.. ففي لحظة أجبرنا الوباء على رفع شعار يفيد بأن "البقاء في البيت" أو "البقاء لله" لنجلس في منازلنا متخوفين من التقارب مع الآخرين.. نكتفي بمتابعة الأخبار مع أمل أن تنتهي الأزمة في أقرب وقت.
الأزمات تشبه أمواج البحر تتدافع في مد وجزر لكنها لا تتوقف.. وعندما تأتي لحظة الانحسار سيكون علينا أن نتأمل دروسها، ومنها أن الإيمان له القدرة على تهدئة مخاوفنا، بينما العلم هو البطل المنتظر للقضاء على هذه المخاوف.. في نهاية الأزمة سيكون علينا المطالبة ببناء المزيد من المستشفيات والأبنية الطبية بنفس الهمة التي نبني بها المزيد من المدارس والجامعات والكليات الطبية..
اقرأ أيضا: في مواجهة كورونا
يجب أن نتذكر من التجربة أن المستشفيات والصيدليات وحدهم كانوا يعملون على مدار الساعة حينما لم نتمكن من الاستغناء عنهم، بينما أغلقنا بسهولة معظم المنشآت ومنها دور العبادة لأن الإيمان الراسخ في قلوبنا لا يحتاج إلى مبان بينما تحتاج صحتنا إلى مستشفيات.
فيروس كورونا لم يكن الأزمة الأولى من نوعها التي تمر على مصر فقد سبق واختبر أجدادنا أوبئة بعضها طل برأسه في القرن التاسع عشر عندما ضربت أوبئة الكوليرا والطاعون مصر، ولكي نتعرف على جانب من هذه الفترة سنقرأ معًا بحثا أعدته الدكتورة أماني سليمان، منشور في مجلة كلية الآداب جامعة الإسكندرية بعنوان (الأجانب في زمن الكوليرا: الاهتمام العلمي والطبي الأوروبي بالوباء في مصر عام 1883)..
هذا البحث المميز الذي أعده قلم بارع قادر على تشريح الأحداث التاريخية وريشة فنانة تمكنت من إعادة رسم الأحداث حتى تكاد تعايشها أثناء القراءة.. وستكون بعض السطور التالية من واقع ما جاء في هذه الدراسة المهمة التي أشارت في جانب منها إلى ضربة وباء الكوليرا عام 1831 والتي تعد هي الموجة الأسوأ على الإطلاق..
اقرأ أيضا: القلب يتحدى كورونا
حيث إن واحدًا من كل عشرين مصريًا لقى حتفه خلال ثمانية وعشرين يومًا فقط هي عمر تلك الهجمة.. وفقدت القاهرة وحدها أربعين ألف شخص من إجمالي سكانها في ذلك الوقت الذي بلغ ربع مليون نسمة.. بينما فقدت مصر بأكملها قرابة 150 ألف مصري من إجمالي تعدادها ثلاثة ملايين نسمة في ذلك الوقت.. وحتى نتخيل فظاعة الأمر فإن نسبة 5% من شعب مصر الذين سقطوا ضحايا الكوليرا في هذه الموجة تعادل الآن ما يزيد على 5 ملايين مواطن.. حفظ الله مصر من كل سوء.
أما الضربة الثانية للكوليرا فقد جاءت في منتصف 1883 لتحصد أرواح عشرات الآلاف من المصريين والأجانب المقيمين بالبلاد ، بعد مضى شهور قليلة على الاحتلال البريطاني لمصر.. وتصبح هذه هي الموجة الوبائية الأولى التي تضرب مصر منذ افتتاح قناة السويس للملاحة الدولية في عام 1869.
وفي رحلة بحث الأطباء عن مصدر العدوى ظهرت عدة سيناريوهات أحدها لا يقل إثارة عن فيلم contagion حينما حاول العلماء أن يبحثوا عن أصل الوباء، فإحدى القصص تفيد بأن سمسارا مصريا من قنا اسمه "محمد خليفة" عاد إلى مصر قادمًا من مومباي إلى بورسعيد، قبل أن يتشاجر مع أحدهم لتصدر الأوامر بإبعاده عن مدينة بورسعيد.. ويضطر للذهاب إلى دمياط ليبدأ بعدها الوباء رحلة انتشاره من دمياط إلى أنحاء الجمهورية خاصة مع تزامن الأمر مع مولد ديني في دمياط، اختلط خلاله المصريين من محافظات مختلفة.. وأصبحت إصابة مواطن واحد فقط سببًا في انتشار الوباء في عموم مصر.
اقرأ أيضا: المواقع الاجتماعية تعيد زمن الإذاعات الأهلية
مع انتشار المرض اندلعت منافسة علمية على أرض مصر بين الألمان والفرنسيين لحل لغز الكوليرا، حيث العالم الألماني روبرت كوخ والعالم الفرنسي لويس باستور يحاولان إيجاد سبب المرض قبل أن تنتهي رحلة الفرنسيين بمأساة درامية تمثلت في وفاة أحد أعضاء فريقهم العلمي بالكوليرا.. ليستكمل الألمان المهمة.
تراجعت شدة وباء 1883 بعد سبعة أشهر قبل عودته مجددًا عام 1947 للمرة الأخيرة ليحصد أرواح الآلاف، ولكن المتأمل لضربات الكوليرا لمصر خلال قرابة 150 عامًا سيتوقف عند مقاومة قطاع من المصريين لإجراءات الحكومة في فرض التطهير أو محاولة عزل المناطق المصابة، حيث رفض البعض هذه الإجراءات وتهربوا منها بل قاومها البعض مرددين عبارات الله أكبر وأقدر من المرض..
على اعتبار أن المرض مكتوب، وأنهم يرفضون محاولات العلاج أو إجراءات التطهير ليهلك هؤلاء، بعد أن تسببت سلوكياتهم في إنهاء حياتهم مع حياة المحيطين بهم في حماقة نادرة قبل أن تكون مغالطة واضحة لما يأمرنا به الدين من المحافظة على أنفسنا وعدم الإلقاء بها في التهلكة.
لكن هذه لم تكن الحماقة الوحيدة التي تسببت في انتشار الوباء وازدياد أعداد الوفيات، فهناك أيضًا العادات المتوارثة لدى المصريين مثل عدم التوجه إلى المستشفيات إلا بعد تدهور الحالة الصحية تمامًا والوصول إلى مرحلة يصعب علاجها، بينما تمت معالجة الحالات التي ذهبت إلى المستشفيات في مراحل مبكرة من المرض.
اقرأ أيضا: صناعة المحتوى للمواقع الاجتماعية
بعد قرن ونصف من صراع المصريين مع البكتيريا المسببة لمرض الكوليرا سقط عشرات الآلاف من أجدادنا، بعضهم لم يكونوا ضحايا للكوليرا بقدر كونهم ضحايا لسلوكياتهم أو تصرفات آخرين، فاقموا بأفعالهم الأزمة بدلًا من المساعدة في احتوائها والسيطرة عليها!
بمرور السنوات تحولت الكوليرا إلى ماض لا يخيفنا، بقدر ضرورة تفهم دروسه والتوقف عن ممارسة نفس الحماقات لتقليل الفاتورة الواجب أن ندفعها من أرواحنا قبل أن يتحول فيروس كورونا إلى ماض.. وعلى رأس هذه الحماقات محاولات البعض التحايل على قرارات حظر التجوال، أو عدم الاكتراث بتنفيذ التعليمات الصحية، أو عدم الالتزام بالنصائح الطبية للوقاية من مخاطر فيروس كورونا، مثلما علينا أن نتعلم من دروس الماضي عبر بناء المزيد من المستشفيات والاهتمام بالمنظومة الصحية والبحثية.