التاريخ الأسود لمفاوضات "سد الكارثة"
أعتقد أنه لم يعد أمام "مصر" لحماية أمنها القومي، أمام التصعيد "الإثيوبى" الأخير في قضية "سد النهضة" سوي ترك المجال مفتوحا أمام كل الخيارات، بعد غياب "أديس أبابا" المتعمد عن جولة مفاوضات واشنطن الأخيرة، والتنصل من توقيع الأتفاق الذي تم التوصل اليه برعاية" أمريكا والبنك الدولي" بل واتخاذ قرار منفرد بملء السد، وتهديد الأمن المائى المصري بكارثة محققه.
فالقارئ للمشهد بهدوء عقب التصعيد "الإثيوبى" وما تبعه من إجتماع الرئيس "السيسي" بعدد من قيادات القوات المسلحة، ثم التحركات والبيانات الأمريكية المندده بموقف "أديس أبابا" سوف يكتشف بسهولة مدى خطورة المشهد الذي يبدو أنه قد أوشك على النهاية.
اقرأ ايضا: الوطن الأزرق
ولعل ما يعزز تلك الفرضية، أن كل المؤشرات التي حملتها التحركات والبيانات الرسمية المصرية الأخيرة، تؤكد أن صبر "القاهرة" قد "أوشك على النفاذ" بعد سنوات من اتباع دبلوماسية "النفس الطويل" والصمت أمام التعنت والاملاءات "الإثيوبية" المتكررة، وإصرارها الواضح على المماطلة، وكسب مزيد من الوقت، للانتهاء من بناء السد، وفرضه ك"أمر واقع".
وما يدعو للأسف في ما وصلت إليه الأمور من تدهور، أن المتتبع لمسار المفاوضات منذ بدايتها عقب يناير 2011، يكتشف مدى المأساة والمعاناه التي خاضتها "القاهرة" خلال تلك المفاوضات، وكيف استغلت "إثيوبيا" حالة "الوهن" التي كانت تعاني منه "الدولة المصرية" خلال تلك المرحلة، بدء من "وضع حجر أساس السد" بعد أسابيع معدودة من اندلاع الثورة، وإنتهاء بإصرارها على فرض وصيتها على مصر، وأن تكون صاحبة الكلمة الأولى والمسموعة في كل مراحل التفاوض.
اقرأ ايضا: احتلال فى ثوب شرعي
وكانت البداية مع حكومة "عصام شرف" التي بدلا من أن تعترض على بناء السد، قبلت تحت ضغط "ضعف الدولة" بالشروط الإثيوبية المجحفة، والإقرار على عكس الواقع بأن السد "تحت الإنشاء" في الوقت الذي كان مجرد "حبر على ورق"، في مقابل قبول "أديس أبابا" بتشكيل لجنة دولية لتقييم "الدراسات الإثيوبية" لسد النهضة، بل والاقرار بأن نتائج دراسات تلك اللجنة "استشارية" وغير ملزمة للجانب الإثيوبى.
وخلال عهد الإخوان، كان التحول الكارثي في القضية، بعد أن قامت إثيوبيا بعد "تصريحات وردية" بتغيير مجرى النيل الأزرق، بعد دقائق قليلة من إقلاع طائرة الرئيس "محمد مرسي" من مطار أديس أبابا، بعد مشاركته في القمة الأفريقية، ولقاء رئيس الوزراء الإثيوبى.
وتم مواجهة الأمر حينها بالمشهد العبثي للاجتماع الذي جمع "مرسي" بعدد من القيادات الدينية والحزبية، والذي تم خلاله طرح طرق مواجهة بناء السد، واكتشف المجتمعون في النهاية، أن الإجتماع "مذاعا على الهواء مباشرا".
اقرأ ايضا: قتلة الشعب السوري
ووصل حجم العبث والفشل في تلك الفترة، إلى حد خشية حكومة "هشام قنديل" على مشاعر "أديس أبابا" واخفاء النتائج الكارثية التي خرجت بها اللجنة الدولية حول "الدراسات الإثيوبية"، على الرغم من تأكيد تلك النتائج علي ضعف وتدني مستوى تلك الدراسات، والتحذير من تأثرها الكارثي علي مصر في حالة تطبيقها.
وإستمرا للموقف الإثيوبى المتعنت والمدعوم بتضامن "سوداني" واصلت "أديس أبابا" إستغلال الظروف الإستثنائية التي تمر بها مصر خلال فترة حكومة الدكتور "حازم الببلاوي" حيث نجحت في فرض إرادتها وإرغام "القاهرة" على القبول بإستبعاد دراسات "السلامة الإنشائية للسد" من الدراسات الاستشارية المطلوبة، إلى جانب استبعاد كافة الخبراء الأجانب من اللجنة الثلاثية.
وفي عهد حكومة المهندس "إبراهيم محلب" وتحديدا في مارس 2015، وقعت مصر على "إعلان مبادئ" منح إثيوبيا "صكا مجانيا" بالموافقة على "بناء السد" دون أن نضمن لأنفسنا حتي الحق في الحصول على حصتنا كاملة من المياه، أو ربط موافقتنا على إقامة "سد الكارثة" بإقرار المكاتب الاستشارية بألا تكون هناك أية أضرار مستقبلية على مصر، وقبلنا بألا نحصل حتى على تعويضات في حالة تعرضنا لاضرار "إلا إذا سمحت الظروف".
اقرأ ايضا : عملاء استيراد الغاز الإسرائيلي
وعلى الرغم من كل التنازلات "غير المقبولة" التي قدمتها مصر طوال السنوات الماضية، إستمرت إثيوبيا في استخدام أساليب المراوغة والتعنت، وهو ما جعل المفاوضات منذ مارس 2015 لا تحقيق الحد الأدنى من درجات التقارب، وهو ما إضطر مصر منذ اسابيع قليلة إلى إعلان "فشل المفاوضات" وطلب دخول "أمريكا والبنك الدولي" كوسيطين دوليين محايدين، طبقا لبنود "إعلان المبادئ".
إلا أنه استمرارا لذات النهج، قررت "أديس أبابا" الغياب عن الجولة الأخيرة من المفاوضات التي جرت برعاية دولية في واشنطن، بعد أن شعرت أن الإتفاق الذي سيتم صياغته برعاية "أمريكا والبنك الدولي" لن يرضى طموحها، الذي سيؤدي لكوارث محققه في مصر والسودان.
الواقع يؤكد أن المشهد "محتقن" وأن "مصر الدولة" الآن غير "مصر الدولة" عقب يناير 2011، وأن الأيام القليلة القادمة قد تشهدت تطورات خطيرة بعد أن أصبح المشهد مفتوحا على كل الاحتمالات.. والله المستعان.