تأدبوا في حضرة الموت
على الرغم من موقفي المؤيد لحتمية إقالة "مبارك" من منصبه كرئيس للجمهورية في يناير 2011، إلا إنني اتحفظ كثير على موقف عدد من "الفضائيات الرسمية" ومعها كثير من المعارضين لنظام "الرئيس الراحل" والذين لم تردعهم "قداسة الموت"، وراحوا يصوبون سهام النقد والتجريح لجثمانه، بدء من اللحظات الأولى لإعلان وفاته.
فبصرف النظر عن سلبيات وايجابيات "مبارك" ونظامه، إلا أن الرجل "رحل" وأن الحنكة والعقل يحتمان علينا ضرورة "التأدب" أمام "حرمة الموت" عملا بالحديث الشريف "اذكروا محاسن موتاكم"، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا"، ولفظا لسلوك "تشوية الرموز" المقيت الذي ادمناه منذ قرون.
فعلى الرغم من الموقف الرسمي المشرف من الدولة، تجاه "الرئيس الراحل" إلا أن كثير من المصريين لم يتعاملوا معه ك "بشرا" يخطئ ويصيب، وأن حرمة وهيبة الموت تفرض علينا ضرورة "الترحم عليه" أو "الصمت" مهما كانت درجة الخلاف.
اقرأ ايضا: مرحبا بـ "كورونا القاتل" في مصر
إلا أن ذلك لم يحدث للأسف، حيث فضل البعض استدعاء عقيدة "تشوية الرموز" التي ترسخت لدينا منذ الآلاف السنين، والتي أصبحنا نمارسها بتلذذ وحرفية، لدرجة أنه لم ينج منا زعيم أو رمز مصرى واحد على مر التاريخ، وحولنا كل حكامنا ورموزنا في شتى المجالات إلى "خونة وعملاء ولصوص" في هوية غريبة لم يُجدها شعب على وجه الأرض سوانا.
وهو ما حدث منذ اللحظات الأولى لإعلان نبأ وفاة "مبارك" حيث كال العشرات من "الساسة، ورجال الاعلام، واستاذة الجامعات، ورجال تقلدوا مناصب مرموقة، واخرين عملوا في أروقة الحكم والسياسة" للرجل ونظامه سيلا من السباب والنقد والتجريح، وكأنهم يصفون حسابات مع جثمان الرجل الذي قبل أن يوارى التراب.
اقرأ ايضا: عملاء استيراد الغاز الإسرائيلي
على الرغم من أن اغلبهم من خلال ما تقلدوه من مناصب، يدركون جيدا أن "الحاكم" خلال وجوده في موقع المسئولية، دائما ما يراعى في قراراته أبعادا قد لا تتضح لرجل الشارع العادى، مثل "الأمن القومى، والظروف الاقتصادية، والعلاقات الخارجية"، وأن الأمانة تفرض علينا وضع جميع تلك الضغوط في اعتبارنا قبل توجيه سهام النقد والتشويه إلى "ميت".
إلا أن هذا للأسف لم يحدث، حيث صب هؤلاء "الساسة" جام غضبهم وبشراسة على "مبارك" عبر صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، بل وامتد الأمر أيضا إلى"التليفزيون الرسمي المصري" الذي لم ينجح قادته في اتخاذ الموقف الطبيعي ل "الإنسان الطبيعي" عند سماع "نبأ الموت"، وأصابهم الارتباك، فراحوا يبثون تقارير مرتبكة وعجيبة، تشيد في بدايتها بانجازات "مبارك" ثم تنسفها وتشوهها في النهاية..
اقرأ ايضا: مصير مفاوضات "سد الكارثة"
وظل ذلك الموقف المخذي إلى أن صدر البيان المحترم ل"القوات المسلحة" واتضح معه الموقف الرسمي "الطبيعي" لمصر الدولة، فقام التليفزيون بقص الاجزاء المسيئه ل "الرئيس الراحل" من ذات التقارير، واذاعتها بشكل يمجد ويشيد بفتره حكم مبارك، وليتهم صمتوا.
الغريب، انه طبقا لما هو ثابت في النقوش الفرعونية القديمة، اننا دائما ما ُنقدم على تشويه إنجازات "كل حاكم يرحل" أرضاء للحاكم الجديد، وسرنا على ذات "العقيدة" وطورناها مع الزمن لتطال كل ورموز "السياسة، والعلم، والدين، والأدب، والفن، والرياضة" لدرجة أنه لم يسلم منا رمز مصريا واحدا على مر العصور، بدء من "حكام الأسر الفرعونية القديمة، وانتهاء بمحمد نجيب، وعبدالناصر، والسادات، ومبارك، والشعراوي، وزويل، وهيكل، وطه حسين، ونجيب محفوظ، واخيرا الدكتور مجدي يعقوب، ومحمد صلاح".
اقرأ ايضا: "إيزادورا" تستغيث
والغريب في الأمر، انه على عكس كل شعوب العالم، مازال لدينا إصرار غريب على إستدعاء ذات العقيدة، في الوقت الذي تخلد فيه كل دول العالم "زعمائهم" حتى وإن اختلفوا أو اطاحوا بنظرياتهم، مثلما يفعل الصينيون مع "ماو تسى تنج" الذي مازالوا يذكرونه ويصدرونه كـ "زعيم" على الرغم من اطاحتهم بكل نظرياته ومبادئه، ولم يخرج سياسيا صينيا واحدا ليسبه أو يتهمه بالسرقة أو العماله أو الشذوذ "كما نفعل".
ترحموا على "مبارك" مهما كانت درجة الخلاف "يرحمكم الله" فللموت حرمة، ونحن بشر، حتى لا يأتي يوما يوجه فيه هواة "تشوية الرموز" سهامهم إلى جثثكم قبل أن توارى التراب.. وكفى.