درس ثانوي
لم تكن السنين التي تمر بنا مجرد أرقام عابرة محسوبة من الأعمار المكتوبة والقدر، بل هي جملة مفيدة من التجارب والعِبر، تُلقننا دروسًا في الحياة، وتعلمنا أن ليس كل ما يتمناه المرء يُدركه، وتؤكد على قوله الله تعالي: "أمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ" أي ليس كل من تمنى شيئًا حصل له.
نرسم لأنفسنا سيناريو للحياة متناسين أن الله قد أعد لنا من قبل سيناريو ربما يكون مختلف مصداقًا لقوله تعالى: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ". نغضب حين نفقد الأماني؛ لكن بعد سنين نعيد قراءة المشهد من جديد، نقيم الأحداث والمواقف والمشاعر.
ونقف مع أنفسنا وقفة عادلة، بعد أن قال القدر كلمته الأخيرة، وسِرنا في طريقهِ حتى النهاية. هل لو عاد بنا الزمن سوف نختار السيناريو الذي رسمناه لأنفسنا، أم أننا سوف نجتهد ونسلم شراع مراكبنا لرياح القدر؟
ربما يختلف الناس في الإجابة على هذا السؤال. ولكن تبقى حكمة السابقين هي اليافطة الكبرى التي تهدأ من أوجاع الذين لاتزال أمانيهم المفقودة حية تغلي في الصدور "ولو علمتم الغيب لاخترتم الواقع"!
في المرحلة الإعدادية كنت شغوفًا جدا اللغة الانجليزية واكتساب مهاراته من تحدث وكتابة، لدرجة أن معظم الجوائز التي حصلت عليها في الإعدادية كانت بسبب التفوق في اللغة الانجليزية، ومازلت حتى الآن احتفظ في مكتبتي ببعض من هذه الجوائز، التي كانت معظمها في صورة كتب لتعليم اللغة الإنجليزية أهدتني المدرسة إياها كنوع من التحفيز مثل كُتب "Bite by Bite" و"Kamel" و"My complete companion".
وتخرجت من المرحلة الإعدادية إلى الثانوية بنفس الشغف، وكان الالتحاق بكلية الطب حلم لم يفارقني في تلك المرحلة الحرجة من عمري، حينها ومن عمر كل إنسان مصري لح حلم وعليه أن يقف ثابتًا في وجه كابوس الثانوية العامة، التي تتحدد على أعتباها مصائر الشباب! وكان المدخل إلى دراسة الطب في ذاكرتي مرهون بضرورة التفوق في اللغة الانجليزية والتوسع في الالمام بالثقافة العلمية.
فمنذ الصف الأول الإعدادي كنت أجمع تحويشة الشهر لأشتري بها مجلة العلم وطبيبك الخاص، فقد كان شغفي ًبدراسة الطب حينها شغف لا يعادله شغف، ورغما ذلك الشغف باللغة الانجليزية والطموح الذي لا يتوقف عن الالتحاق بكلية الطب؛ كنت ممتنعًا تمامًا عن المشاركة في الدروس الخصوصية وفي اللغة الانجليزية على وجه الخصوص!
وفي نهاية الصف الثالث الثانوي وكنتُ قد التحقت بشعبة علمي علوم، كان يُدَرسُ لنا مادة اللغة الانجليزية مدرسٍ عاد لتوهِ من إعارته إلى دولة اليمن. أسمرُ اللون، طويلُ القامة، ثغره لا يبتسم، يحمل في يده عصا لا تفارقه! ورغم عبوسه المستمر، كنتُ محبًا له قدرَ محبتي للغة.
لكنني لم أشارك زملاء الفصل في الدرس الخصوصي الذي نظمه الأستاذ في منزله الخاص بقرية مجاوره، كنت طالبًا مشاغبًا كثير الأسئلة؛ بسبب كثرة القراءات والمراجع "الملخصات" التي اشتريها كي أحصل على المعلومة من مصادر معرفية عديدة. لدرجة أنني كنت أسأل المدرس أحيانًا أسئلة لا يجيب عليها إلا بالصمت وبنظرة عين عابسة مليئة بالغضب!
وذات يوم جاء زميلي في "التختة" والذي كان ممتنًا لي كثيرًا؛ لدعمه في مذاكرة بعض الدروس. وأخبرني أنه أثناء تلقيهم الدرس الخصوصي في اللغة سألوا المدرس عن توقعاته حول أسماء المرشحين للتفوق والالتحاق بكلية الطب هذا السنة. فأجاب ولم يذكر إسمي على الاطلاق، فبغاتوه زملائي بالسؤال عني، فأجاب بكلمة واحدة "فلان لن يدخل كلية الطب"!
وقعت هذه الجملة في إذني وكأنها خنجر في الصدر، تهاوت معها كل طموحاتي وتمزقت على أعتابها كل الكتب والمراجع التي قرأتها. وإستبدل الأمل بالدموع التي لم تجف وجفوني التي لم تنم حتى التقيته في ظهيرة اليوم الثاني، وكان يجلس على كرسي من الخيزران بهدوءه المعتاد يداعب في صمت العصا التي في يده. وكأن بينه وبينها حديث لا ينقطع!
وقفت أمامه وقفة المهزوم المنكسر، والمُعاتِب والحائر المُعاقَب على ذنبِ لم يعرفه، نظرت إلى وجهه الأسمر وعينيه الجاحظتين في صمت، ولسان حالي يقول: لماذا يكون جزاء الاجتهاد الهزيمة والانكسار؟!
وقفت أمامه بدموعي التي تخٍرُ كالسيل، فتتلعثم معها الكلمات والقدرة على التعبير والوصف.. لكن شجاعة المحبط دفعتني إلى أن أسأله: لماذا يا استاذ عبد اللاه؟ فنظر إليَ بانفعالٍ وقال: لماذا ماذا؟!
فقلت له: لماذا توقعت لي عدم التفوق في الثانوية رغم أنك كنت دائم الثناء علي؟! لماذا لم تنصحني وتُبصٍرني بنقاط الضعف والخلل؟!
فنظر إلى كعادته بعمق وبعد صمت قليل قال بلغة عامية بسيطة جملته الطاعنة في القلب والذاكرة "يا بني بطل تقرا كتير"!
قالها ثم تركني وانصرف، وعدت للبيت وحدي أجرجر ذيول الهزيمة، أنظر في كل الكتب التي قرأتها وأتسأل، والدموع تنهمر محملة بتلالِ من الحيرة والوجع.. أتسأل في صمتٍ رهيب:هل يمكن أن تكون كل تلك الكتب التي خِلتُها يوما مصدرًا للتفوق مصدر ًا للفشل؟! هل يمكن أن تكون كثرة الاطلاع والمعرفة وسيلة لعقاب أصحابها؟! هل بالفعل الوعي مرضٌ والمعرفة سلاحٌ إن لم نحسن استخدامه يكون أقرب إلى الدمار؟!
وعلى كلِ فقد صدقت نبوءة الأستاذ عبد الله مدرس اللغة الانجليزية.. ولم أتفوق في الثانوية العامة، ولم ألتحق بكلية الطب -الحلم الذي لم يمت- لكن مات الأستاذ وظلت نصيحته بعدم الإكثار من القراءة عالقة في الذاكرة! مات الأستاذ وسؤال الاحباط الذي صدره لم يمت. مات وترك لى سؤالًا مازلت أبحث عن اجابته!
هل القراءة على القَدْر واجبة؟! وهل تنوع المعرفة مخاطرة؟! وهل الوعي مرض؟! وهل الرؤية الأوسع للأشياء والأقدار جريمة بحق أصحابها؟! وهل الاجتهاد سُبة يعاقب عليها الزمن؟! وأخيرًا هل كان الأستاذ أمينًا في نصيحته رغم صدق نبوءته؟!
أسئلةٌ كثيرةٌ لا تزال عالقةٌ في الذاكرة.. لعل عنوان إجابتها كان قد لخصها سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين قال: إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى؛ فأولُ ما يقضي عليه اجتهاده!" رحم الله استاذي صاحب البصيرة النافذة، التي تخطت أعتاب الزمن ووضعني بعنفٍ ً في مفترق الطرق!
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا