انتصارات أكتوبر الملهمة والطريق إلى دولة القيم
على مدار تاريخ مصر الحديث ستظل حرب أكتوبر أيقونة للتفوق بكل معانيه.. فهي ليست معركة عابرة على متن صفحات التاريخ المطوية، وإنما هى انتصار للكرامة الإنسانية، وكسر لغطرسة جيش كان يرى أنه جيش الله المختار. كما يرى أصحابه بأنهم شعب الله وأحباءه وأبناءه.. فانتصار أكتوبر 1973 هو انتصار للحق والفضيلة، ورسالة قوية لكل من تسول له نفسه المساس بأرض مصر أو هويتها..
لم تحارب مصر في 6 أكتوبر جيش بني صهيون وحده وإنما كانت تحارب قوة دولية غاشمة؛ تساند جيش الاحتلال بالعدة والعتاد، وتمثل سندًا قويًا وظهرًا يحول دون هزيمته أو انكساره، لكن كانت مصر وحدها تحارب وخلفها قوة الحق والإرادة والايمان والصبر، فانتصر الحق على الباطل ولَّقن جيش مصر الخالد إسرائيل ومن خلفها درسًا قويًا لا يمكن بحال تزييفه أو نسيانه..
وكان وسوف يظل إنتصار أكتوبر غصة في صدر إسرائيل يعزز دائمًا رغبتها في الانتقام.. إذ عطل إنتصار أكتوبر مخطط إسرائيل في التمدد في المنطقة وإعلان دولتها المزعومة من النيل إلى الفرات..
واحد وخمسون عاما على نصر أكتوبر
واحد وخمسون عام مضت ولا تزال إسرائيل تحلم بلحظة الانتقام، وفى كل مرة تسعى فيها لتحقيق الحلم تتذكر مرارة الهزيمة وتجد جيش مصر يقظًا واعيًا لمخططها ومستعد دائمًا للمواجهة.. وكما فعلها الجيش المصري مرة؛ فإنه مستعد وقادر على فعلها ألف مرة.. وأن عقيدته القتالية التي تنطلق من إيمانه الراسخ بأنه جيش غير طامع ولا معتد وأنه لا يقاتل أبدًا على باطل..
ومن ثم فإننا أمام جندي مؤمن بأن الموت دفاعًا عن الوطن حياة خالدة.. كما إننا أمام قيادة عسكرية واعية ترى أن إسرائيل جزء من التاريخ ولكن لا وجود لها في الجغرافيا.
لقد خاضت إسرائيل منذ نشأتها عام 1948عديد من المعارك القتالية غير المنظمة التي تتسم بالبلطجة العسكرية وتزييف الحقائق والانتصارات، حتى تزييف أسباب المعركة نفسها والتي هي في مجملها أشبه بحرب العصابات وليس حروب الجيوش الرصينة التي تنطلق من مبادئ عسكرية راسخة..
ورغم انتصار إسرائيل في كل أو معظم معاركها في المنطقة إلا أن حرب أكتوبر تظل هي المعركة الوحيدة التي خسرتها إسرائيل؛ فأفقدتها توازنها في ست ساعات فقط، وألزمت جيشها المغرور ثكناته..
لقد أدركت إسرائيل من خلال حرب أكتوبر وما بعدها أنها أمام جيش خلفه شعب مؤمن بحقه في القتال. وأن الجيش لن يقاتل بمعزل عن الشعب، وأن كل فرد من أفراد الشعب مسلح بالعقيدة العسكرية والوعي، ولديه الجاهزية الكاملة للانضمام للجيش والقتال في سبيل الوطن، حين يشعر الوطن بالخطر.. وأنه حين يدعوه الوطن إلى التجنيد يعتبر أن تلبية النداء واجب، وأن الموت في سبيل الوطن شرف، شرف يتخطى حدود الزمان والمكان..
فأكثر ما كان يرعب إسرائيل هو اصطفاف الشعب خلف الجيش وخلف قيادته السياسية.. ورغم محاولات إسرائيل بكافة أجهزتها الاستخبارية أن تزعزع جسور الثقة بين الشعب والجيش، وتصنع لنفسها مساحة بينهما؛ إلا انها فشلت.
بطولات وانتصارات
فقد جاءت احداث 25 يناير شاهدة على صدق العقيدة ووحدة الصف.. حيث إستقبل المتظاهرون نزول الجيش إلى الشارع بالتكبير والتهليل والاصطفاف من أجل استعادة الاستقرار الذى استهدفته إسرائيل وحلفائها وهددته هتافات الثوار في الميادين.. وحافظت عليه عقيدة الجيش الثابتة. فكانت الشعارات في الميادين الساخنة "الجيش والشعب إيد واحدة".
وجاءت ثورة 30 يونيو 2013 لتكون بمثابة معركة جديدة للوعى وللكرامة الإنسانية والانتصار للوطن وللاستقرار والتنمية.. وكانت رسالة قوية لإسرائيل ومن ولاها.. بأنها أمام جيش خلفه مائة مليون مواطن.. وأننا أمام شعب خلفه جيش مؤمن بحقه في الحياة والعيش في سلام.. وأنه حين تلتقي إرادة الجيش مع إرادة الشعب يتحقق النصر..
ويذكرنا التاريخ كل يوم أن مصر حاضرة ولا تزال وسوف تظل شامخة رغم أنف التاريخ نفسه ورغم أنف الحاقدين والمتآمرين، وأن حب أبنائها لها وانتمائهم لها ليس شعارًا براقًا وإنما عقيدة راسخة، تناقلتها الجينات المصرية الأصيلة عبر التاريخ.. فمنذ بداية التاريخ كانت مصر عبارة عن جيش خلق الله له شعب.. دربته الأحداث والمطامع على القتال بنزاهة وشرف، وعلمته الحياة العسكرية شرف الدفاع عن الوطن والموت في سبيله.
لم يأت عشقنا العميق لهذا الوطن وجيشه الباسل من فراغ، وإنما من محصلة البطولات التي خاضها ذلك الجيش الباسل بشجاعة، وحقق النصر على أعدائه باقتدار وحافظ على مقدرات وأمن واستقرار بلاده، وكان درعًا قويًا حافظ على أمانة الوطن عبر التاريخ المليء بالمكائد والأطماع وغدر الحلفاء وخيانة الأصدقاء..
تذكرني انتصارات أكتوبر دائمًا بأن مصر بلد حي في عالم ميت، ماتت فيه كل قيم النبل والوفاء والإنسانية، وسادت فيه قيم العدوان والبطش والوضاعة باقتدار.. وقدمت حرب أكتوبر للعالم نموذجًا للفارس المقاتل النبيل الذي يواجه أعداءه بكل حسم دون الاقتراب من الأطفال والنساء والشيوخ، ودون استهداف لحياة المدنيين وسبل معيشتهم، فاستهدافه دائمًا كان لمنشآت العدو العسكرية كي تهزم قدرته على الاستمرار في القتال والمقاومة وتفل عزيمته في مواصلة عمليات الاحتلال..
فلم يذكر التاريخ الدولي أن الجيش المصري إرتكب جريمة إنسانية واحدة بحق المدنيين في إسرائيل أثناء حرب أكتوبر، بعكس جيش الإحتلال الذى ارتكب مجازر إنسانية عديدة، كان أهمها مجزرة مدرسة بحر البقر الابتدائية شمال محافظة الشرقية عام 1970، والتي راح ضحيتها أكثر من 19طفل، كان لا يزال يتلمس الخطوات الأولى للحياة. وأصيب في المجزرة أكثر من 50 طفل أخرين.
درس أكتوبر
لقد كانت حرب أكتوبر بمثابة زلزال تعرضت له إسرائيل، حسب وصف قادة جيش الاحتلال للمعركة، حيث أكدوا: "أن ما حدث في 6 أكتوبر 73 قد أزال الغبار عن العيون، وأظهر ما لم نكن نراه من قبل، وأدى ذلك إلى تغيير عاصف في عقلية قيادات الجيش الإسرائيلي، وأن حرب أكتوبر فجأتنا على نحو لم نكن نتوقعه، ولم تحذرنا أي حكومة أجنبية بوجود خطط محددة لأي هجوم عربي".
لقد ألهمت انتصارات أكتوبر روح الفداء والتضحية لكل المصريين، وساهمت بشكل منقطع النظير في تشكيل الوجدان الوطني لجموع الشباب المصري.. فظلت أيام أكتوبر الحاسمة خالدة في الذاكرة، تنبئنا كل يوم بأن هناك في الجبهة جنود لا تنام عن حماية الوطن ولا تكف عن تتبع أهداف العدو الاستعمارية النتنة..
جنود يحملون أعناقهم على أكفهم من أجل أن ينام شعبهم الخالد في سلام.. فلم يعد الجيش المصري مخصص فقط لحماية مصر وحدها، فقد اثبتت الأيام السوداء التي تشهدها المنطقة العربية بفعل العدوان الإسرائيلي الغاشم في هذه الآونة، والتي جعلتنا نشعر بأننا نعيش حروب بلا نهاية وسلام بلا هدنة، أن الجيش المصري أصبح مسئولًا عن حماية إقليم بأكمله. وأن الهوية في عقيدته كالأرض والعرض لا يمكن المساس بها. وأن المسافة بينه وبين أي بلد عربي في خطر "مسافة السكة".
لقد علمنا درس أكتوبر أن الجيش الذي خلفه شعب يدعمه لا يُقهر أبدًا، وأن الوطن الذي خلفه جيش مؤمن بقضيته لا يموت. فمصر هي أرض الثورة التي لا تهدأ، والنيل الذي لا يجف، هي سفينة نوح للعروبة، على أرضها مشى موسى مع الخضر، وفي قلبها كانت رحلة العائلة المقدسة.. وبيدها مفتاح الحياة..
فتحية لهذا الجيش الباسل في ذكرى انتصاراته الخالدة، تحية وفاء وتقدير واحترام.. وتحية للشعب المصري الواعي المدرك دائمًا لخطورة الحدث وأهمية الحفاظ على جيشه والاصطفاف خلف قيادته السياسية من أجل وطن يستحق الحياة كما يستحق التنمية ويستحق أن يعيش أهله في سلام..