وردة التي علمتنا الشرف
في ذاك اليوم البعيد، الذى أكاد أراه أمام عينى وفي عقلى كأنه وقع بالأمس فقط، تعلمت حينها من تلك الفتاة الصغيرة الرقيقة الفقيرة معاني كثيرة صاحبتني في مشوار حياتى، وعلمتني أن الشرف والحياء قيمة لا يقدرها إلا من صفت نفسه وعلت همته وسمت روحه فوق كل دنيء ومحتقر، وبينما نحن الآن نصارع مفردات عصر فقدان القيمة وسيادة المادة فوق كل أصيل وجميل وقيم، تذكرت تلك الفتاة التى كانت تشبه الوردة في رقتها ذات الجسد النحيل المنهك من الشقاء والبؤس وتحمل مسؤولية أسرة بأكملها.
كنا في بداية الثمانينات من القرن الماضى، وكانت تحولات الخصخصة وسياسة انفتاح السادات قد طحنت الفقراء فزادتهم فقرا وجعلت القيمة في الجنيه وحده وليس في الإنسان، فتأثرت أسر كثيرة وعانت شظف العيش وكانت أسرة وردة من تلك الأسر..
فذهبت الفتاة الصغيرة التى قاربت الثالثة عشر من عمرها للعمل في إحدى المطاعم الشعبية الشهيرة في حي السويسي بدمنهور، عمل مجهد وشاق لكنه المتاح لفتاة صغيرة تكفل أسرة بأكملها، تذهب إلى مخبز العيش لتحمل طاولة خبز كبيرة بها 200 رغيف، تكاد رقبتها النحيلة تغوص في منكببها من ثقل الطاولة والخبز المر الذى تسعى إليه.
كنا لا نعرف إسمها، لكننا أجمعنا كصبية وعمال في المخبز على أنها وردة، ربما لجمال وجهها البرىء ورقتها وربما تأثرا بالفستان الوحيد الذى كانت ترتديه كل يوم ولا تغيره، كان مزهرًا رغم بهتان ألوانه وتهرئ نسيجه، لكنها بقيت بداخله وردة جميلة جذابة صامته تنزوى في ركن من المخبز حتى يأتى دورها في حمل طاولة الأرغف لتودعها مكان عملها وترجع مرة أخرى، يضيء وجهها عرق لا تستطع مقاومة من حرارة الفرن وقيظ الصيف، لكنها تقاوم صامدة ثابتة غير مكثرة إلا بالحصول على أجر يومى يكفل أسرتها.
وفي اليوم الموعود دخلت وردة الفرن كعادتها وأسندت ظهرها لأحد الأركان في أمان الله، متعبة من العمل الدائم وإذا بأحد الصبية السفلة يضيع يده على جسدها، فإذا بالجميع يسمع صوتها لأول مرة، لم تتحدث بل كان بكاء ونحيبا وصدمة كبرى..
انتفضت تدافع عن نفسها بكل قوة ممكنة لا تتناسب مع ضعف جسدها، ثم انهارت الفتاة باكية وإنفجرت مشاعرها وتقديرها لنفسها العزيزة الشريفة حتى تأثر جميع الحاضرين وانهالوا بالسباب والركل على الصبي المعتدى الذى لمس جسدها، كان رد فعلها التلقائي رسالة لنا جميعًا على قيمة العفة والشرف وتقدير الذات وإحترام الإنسان لذاته رغم فقره وبؤسه وضعفه وحاجته للمال.
ما جعلني أتذكر تلك الفتاة الشريفة هو موجة الانحلال والسقوط الأخلاقي المزري في عصر ضياع القيمة الذى نكابده هذه الأيام، فكل من تسعى للمال أو الشهرة تتحلل من كل قيمة وتتحرر من كل خلق أو دين وتعرض بضاعتها الجسدية واللفظية الرخيصة على مواقع التواصل، ثم عندما تزداد في غيها وفجرها وإباحيتها تجرى وراء استضافتها قنوات فضائية بكل رخص ممكن، فيجعلون من الفجر والفجرة نجوم وأيقونات رسالتهم هدم كل القيم النبيلة، رحم الله كل وردة شريفة لم تبع نفسها وثمنت قيمتها.
Fotuheng@gmail.com