رئيس التحرير
عصام كامل

صبرا وشاتيلا.. نزيف الذاكرة ولعنة الغدر

في خريف عام 1982، حين كانت بيروت تختنق تحت وطأة الحصار والدمار، وحينما كانت جدران المخيمات الفلسطينية ترتجف من قسوة الغدر، شهد العالم مجزرة بشعة، لم تُبقِ ولم تذر، مجزرة رَسَمَتْ بالدَّمِ على جدرانِ الذاكرةِ العربيةِ جرحًا لا يندمل.

في ذلك الفجر الحالك، يوم 16 سبتمبر، لم يكن سكان مخيمي صبرا وشاتيلا يعلمون أن الموت قد تسلَّلَ إليهم خلسة، محمولًا على أكتاف التاريخ الملوث بالخيانة والاحتلال.. فما إن جفت دموع الأمهات اللواتي ودعن المقاومين الراحلين في سفن المنفى، حتى استيقظ العالم على كابوس جديد، كابوس صنعته أيدي الميليشيات الفاشية المتحالفة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، تحت أنظار العالم الصامت، وبرعاية تواطؤ القوى العظمى.

كان الاتفاق الذي وقع عليه الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات برعاية المبعوث الأمريكي فيليب حبيب، بضمانة رئيس الوزراء اللبناني صائب سلام، يَعِدُ بحماية أرواح الأبرياء الذين ظلوا في المخيمات، بعد خروج المقاتلين. 

لكن، كما هي عادة الاحتلال والغاصبين، لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى نُقِضَ الاتفاق قبل أن يجف حبره.. ووجد اللاجئون الفلسطينيون أنفسَهم في مواجهة قدرٍ مشؤوم، خططت له العقول المدبرة، ونفذته الأيادي المتعطشة للدماء.


مجزرة صبرا وشاتيلا تُعدّ واحدة من أفظع الجرائم التي ارتُكبت ضد المدنيين في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وجرت أحداثها المروعة بين 16 و18 سبتمبر 1982، وذلك في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في بيروت، لبنان. 


جاءت المجزرة في سياق الاجتياح الإسرائيلي للبنان وما تلاه من خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت بناءً على اتفاق بوساطة أمريكية قادها المبعوث فيليب حبيب، وبضمانة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق صائب سلام.
 

الخلفية التاريخية

في صيف عام 1982، شنّ الجيش الإسرائيلي بقيادة وزير الدفاع آنذاك أرييل شارون عملية عسكرية واسعة في لبنان تحت مسمى عملية سلامة الجليل، بهدف طرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. إثر الصمود الأسطوري للمقاومة والضغوط الدولية والمفاوضات التي توسط فيها المبعوث الأمريكي فيليب حبيب، تم الاتفاق على خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت.. 

 

وفي المقابل، تضمَّن الاتفاق تعهدات بضمان أمن وحماية المدنيين الفلسطينيين في المخيمات. إلا أن هذه الضمانات لم تُحترم، وسرعان ما تصاعدت الأحداث إلى واحدةٍ من أبشع المجازر.
 

المجزرة

في أعقاب اغتيال بشير الجميل، زعيم ميليشيات القوات اللبنانية والمرشح لرئاسة الجمهورية اللبنانية، دخلت قوات إسرائيلية إلى بيروت الغربية وفرضت حصارًا على مخيمي صبرا وشاتيلا، ممَّا مهدَ الطريقَ لميليشياتِ القوات اللبنانية، المتحالفة مع إسرائيل، لتنفيذ المجزرة.. لمدة ثلاثة أيام، بدأت المجزرة في 16 سبتمبر 1982 واستمرت حتى 18 سبتمبر. 

دخلت الميليشيات إلى المخيمين حيث قتلت بلا رحمة الرجال والنساء والأطفال، بأساليب وحشية تضمنت إطلاق النار والتعذيب والاغتصاب.

بحسب تقديرات الصليب الأحمر وبعض الشهود، تراوح عدد الضحايا بين 800  و3500 قتيل، معظمهم من اللاجئين الفلسطينيين، بالإضافة إلى عدد من اللبنانيين.

 

دور القوات الإسرائيلية

من الواضح أن القوات الإسرائيلية، التي كانت تسيطر على المنطقة المحيطة بالمخيمين، لعبت دورًا مباشرًا في تسهيل المجزرة؛ فقد أمَّنت القوات الإسرائيلية الحمايةَ للميليشيات اللبنانية أثناء اقتحام المخيمين، حيث زوّدتهم بالإضاءة الليلية عبر قذائف مضيئة، وفرضت طوقًا حول المنطقة لمنع المدنيين من الهروب.

 

لجنة تحقيق إسرائيلية لاحقًا، تُعرف بلجنة كاهان، وجدت أن أرييل شارون وقيادات أخرى في الجيش الإسرائيلي تتحمل مسؤولية غير مباشرة عن المجزرة، ما أدى إلى استقالة شارون من منصب وزير الدفاع، لكن دون محاسبة حقيقية.

 

الأبعاد السياسية

المجزرة كانت جزءًا من مخطط أوسع لضرب الوجود الفلسطيني في لبنان ولتعزيز النفوذ الإسرائيلي في المنطقة.. لعبت القوى اللبنانية المتحالفة مع إسرائيل دورًا أساسيًّا في ارتكاب المجزرة، وسط تواطؤ إسرائيلي واضح. 

إلا أن المجزرة لم تنجح في كسر الروح الفلسطينية، بل على العكس زادت من عزيمة الفلسطينيين وشحذت مقاومة الاحتلال والهيمنة الإسرائيلية.

 

الذكرى والعواقب

في كل عام، في 16 سبتمبر، تحل ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا لتذكير العالم بفظائع الحرب والانتهاكات التي ترتكب بحق المدنيين الأبرياء.. رغم مرور أكثر من أربعة عقود على هذه الجريمة، لم تُحقق العدالة الكاملة ولم يُحاسب المسؤولون الحقيقيون.. ما زالت المجزرة جرحًا نازفًا في ذاكرة الشعب الفلسطيني والشعوب المناصرة لقضيتهم، ودليلًا على وحشية الاحتلال وحلفائه.

 

تبقى مجزرة صبرا وشاتيلا رمزًا للمآسي التي شهدتها المنطقة خلال سنوات الحرب، وتحذيرًا دائمًا من نتائج الحروب والتحالفات العسكرية التي تتجاهل حقوق الإنسان.


وهكذا، لم تكن صبرا وشاتيلا مجرد مجزرة عابرة في دفتر التاريخ الملطخ بالدماء، بل كانت جرحًا مفتوحًا على صفحات الذاكرة العربية، يئن مع كل ذكرى، ويصرخ في وجه الصمت الدولي والتواطؤ الذي أغمض عينيه أمام بشاعة المجزرة.

 

على أرض تلك المخيمات البائسة، سقطت الإنسانية غارقة في مستنقع الخيانة والجريمة. وما بين أزقة صبرا وشاتيلا، تسللت أرواح الضحايا كالعطر المر، تطالب بالعدالة، وإنصاف الحق المهدور..

لقد رحل القتلة بلا محاسبة، لكن ذاكرة الشعوب لا تموت، والتاريخ لا ينسى.. ستبقى تلك الليالي الدامية وصمة في جبين من خانوا وشاركوا وتواطأوا، وستظل دماء الأبرياء شاهدة على وحشية الظلم وفساد الضمائر.

 

 

في كل ذكرى، نعود لنتساءل: متى ينكسر حاجز الصمت؟ متى ستشرق شمس العدالة على تلك الأرواح الطاهرة التي أُزهقت في غفلة من العالم؟ إلى أن يحين ذلك اليوم، ستظل صبرا وشاتيلا رمزًا لوجع لا يمحوه الزمن، وعبرة في صفحات الصمود الفلسطيني، وتذكرة بأن الجروح وإن طال زمنها، ستظل تنزف حتى تجد الإنصاف.

الجريدة الرسمية