ناصر وفلسطين:
من حصار الفالوجا إلى مذابح أيلول.. مسيرة نضال لم تنقطع
في الثامن والعشرين من سبتمبر، صمت صوتٌ من أعظم أصوات العصر الحديث، ليغيب الموت عنّا زعيمًا حمل على عاتقه هموم الأمم المستضعفة في العالم. جمال عبد الناصر، الذي عاش حياةً حافلة بالنضال والكفاح، لم يكن مجرد قائدٍ مصري، بل كان أحد زعماء العالم الثالث عن جدارة. في قلبه وعقله، كانت القضايا العادلة نبراسًا يهتدي به في مسيرته، وعلى رأس هذه القضايا كانت فلسطين، الجرح النازف في جسد الأمة العربية.
كان ناصر يرى في القضية الفلسطينية أكثر من مجرد صراعٍ إقليمي؛ بل كانت تجسيدًا للظلم الذي يعاني منه المستضعفون في كل مكان. ولذلك، جعلها قضيةً مركزية في فكره وعمله، يتعامل معها باعتبارها امتدادًا لنضاله ضد الاستعمار والاستبداد. لم تقتصر مساعيه على تحرير الأرض فحسب، بل كانت رؤيته أعمق، تذهب إلى بناء جبهة مقاومة متحدة وقوية، قادرة على الدفاع عن حقوقها بشرف وكبرياء.
وبرغم أن الأجل لم يمهله إلا بضعًا وخمسين عامًا، إلا أن إرثه تجاوز الأجيال، ليظل حاضرًا في وجدان الشعوب العربية وأحرار العالم حتى اليوم. إن بكاء الشعوب على رحيله لم يكن مجرد تعبير عن حزنٍ عابر، بل كان تقديرًا لحياةٍ ملأتها التضحيات من أجل الحرية والكرامة.
دعم القضية الفلسطينية
ومن بين كل القضايا التي آمن بها وناصرها، كانت القضية الفلسطينية هي المحور الذي دارت حوله رؤيته للوحدة العربية والنضال التحرري. منذ أن شارك في حرب 1948، حيث حوصر ضمن لواء مصري في قرية عراق المنشية قرب الفالوجا، وحتى آخر أيامه وهو يعمل على ترتيب مؤتمر استثنائي في القاهرة لوقف مذابح أيلول الأسود وحماية منظمة التحرير الفلسطينية، كان ناصر ثابتًا في دعمه لفلسطين، مؤمنًا بحقها في الحرية والاستقلال.
إن حياة جمال عبد الناصر، رغم قصرها الزمني، كانت مملوءة بأعمالٍ عظيمة خلدت اسمه في صفحات التاريخ. وبقدر ما كان رجلًا للدولة والسياسة، كان أيضًا رمزًا للنضال والحرية، وإلهامًا لجيلٍ كامل من القادة والمقاومين حول العالم.
عندما نتأمل في سيرة الزعيم العربي جمال عبد الناصر، نجد أن القضية الفلسطينية كانت حاضرة بقوة منذ اللحظات الأولى التي دخل فيها الساحة السياسية والعسكرية. بدأ ناصر حياته العسكرية مشاركًا في حرب 1948، حيث تمركز ضمن لواء مصري كان محاصرًا في قرية عراق المنشية قرب الفالوجا.
كان هذا الحصار تجربة مؤلمة وغنية بالدروس لعبد الناصر ورفاقه، إذ شاهدوا بأعينهم كيف يمكن للروح القتالية أن تواجه الإمكانيات الضخمة والاحتلال المستعصي، فترسخت لديه قناعة بأن القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية عسكرية، بل قضية عربية مصيرية تتطلب جبهة موحدة ودعمًا شاملًا.
هذا الوعي المبكر بالقضية الفلسطينية دفع جمال عبد الناصر ليضعها في مقدمة أولوياته عندما أصبح قائدًا لثورة يوليو 1952. كان إيمانه بأن تحرير فلسطين يبدأ من بناء جيش وطني قوي ومستقل، فكان أحد مبادئ الثورة الستة هو "إقامة جيش وطني قوي" قادر على حماية الوطن والدفاع عن القضايا العربية.
لم يكن دور جمال عبد الناصر مقتصرًا على الدعم العسكري فقط، بل أدرك أهمية التمثيل السياسي للفلسطينيين. لذا، كان من أوائل الداعمين لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، التي رآها كخطوة حاسمة في تنظيم المقاومة الفلسطينية وتوحيد صفوفها. بذل عبد الناصر جهودًا كبيرة في حشد الاعتراف العربي والدولي بالمنظمة، وحرص على توفير الدعم اللازم لها لتصبح الصوت الشرعي والوحيد المعبر عن الشعب الفلسطيني.
وقف مذابح أيلول الأسود
في سنواته الأخيرة، لم يتوقف جمال عبد الناصر عن دعم القضية الفلسطينية، بل كانت آخر نشاطاته الكبرى مرتبطة بها. ففي سبتمبر 1970، وسط تصاعد الأحداث الدامية في الأردن والمعروفة بأيلول الأسود، دعا عبد الناصر إلى عقد مؤتمر قمة عربي استثنائي في القاهرة..
كان الهدف من المؤتمر وقف مذابح أيلول التي كانت تُرتكب ضد منظمة التحرير، وترتيب خروج آمن لياسر عرفات وقادة المنظمة من الأردن للمشاركة في المؤتمر، حيث لعب عبد الناصر دورًا محوريًا في تهدئة الأوضاع وفتح قنوات للحوار بين الأطراف المتنازعة.
رحل جمال عبد الناصر بعد انتهاء أعمال المؤتمر الذي نجح في وقف نزيف الدم، إلا أن إرثه في دعم القضية الفلسطينية بقي حيًا، مؤكدًا أن فلسطين كانت وستظل قضية العرب المركزية، التي لا يمكن التخلي عنها حتى تحقيق العدالة والنصر.
في الختام، يبقى جمال عبد الناصر رمزًا خالدًا للنضال والتحرر في قلوب الشعوب العربية وأحرار العالم. لقد عاش حياةً ملؤها الإيمان بالعدل والكرامة، مدفوعًا برؤية ترى في الحرية حقًا مقدسًا لا يُساوم عليه. كانت فلسطين بالنسبة له أكثر من قضية، كانت جوهر صراعه ضد الظلم، ومرآةً تعكس كفاح الأمة العربية في سبيل تحرير أرضها واستعادة حقوقها المسلوبة.
برحيله المبكر، ترك جمال عبد الناصر فراغًا في الساحة السياسية، لكن إرثه في دعم القضايا العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بقي حيًا يتردد صداه عبر الأجيال. لقد أثبت أن الزعماء الحقيقيين لا يموتون، بل يعيشون في ضمائر شعوبهم، يواصلون مسيرتهم عبر تلك الأرواح التي ألهموها بنضالهم وعزمهم.
وها نحن اليوم، ننظر إلى ماضٍ كان فيه ناصر عمودًا من أعمدة الصمود العربي، ونتذكر أن النضال من أجل الحق والحرية لا يتوقف. فالقضية الفلسطينية التي كانت محور حياته تبقى شاهدًا على أهمية الوحدة والإصرار في مواجهة التحديات، وعبرة لكل من يسير على درب التحرر.
في رثاء جمال عبدالناصر
رحل ناصر عن عالمنا، لكن مبادئه لم ترحل. بقيت تتحدى الزمن، وتلهم الأجيال الجديدة للسير على خطى قائد آمن بأن النضال المستمر هو الطريق الوحيد لتحقيق النصر. وفي كل مرة تذكر فيها فلسطين، يذكر معها عبد الناصر، قائدًا حفر اسمه في تاريخ الأمة بأحرف من نور.. وهنا يحضرني قول الشاعر محمد الفيتوري:
دع لى بعض الزهرات أعلقهن على صدرك
دع لى بعض اللحظات
يا من يتضاءل مجد الموت لدى عتبات عُلاه
يا من يتجسّد - وهْو شَموخ - فى قلب المأساة
يا عطر الأيام الحُبلى بعذابات التكوين
يا من هو كل المظلومين وكل المهمومين
إنى أصغى لصدى خطواتك فى أرض فلسطين
أو أنت القادم عند الفجر إلى أرض فلسطين
عليك سلام الله
عندما نعيد قراءة المقطع الأخير من قصيدة "القادم عند الفجر" على ضوء أنها كتبت في رثاء جمال عبد الناصر، نجد أن الزهرات التي يطلب الشاعر أن يعلقها على صدر ناصر تمثل رموزًا للوفاء والتقدير والاحترام العميق.
محمد الفيتوري يرغب في أن يقدم تحية أخيرة لقائد يعتبره رمزًا للنضال والتحرر، تلك الزهرات ليست مجرد جمال زائل، بل تعبير عن إرث خالد يتركه عبد الناصر في قلوب محبيه.
وعندما يقول "أو أنت القادم عند الفجر على أرض فلسطين، سلام الله عليك"، نجد أن الفيتوري يضع عبد الناصر في مقام الأمل الذي طال انتظاره. فهو يرى فيه الفجر الذي كان سيشرق على فلسطين ويحقق العدالة والحرية. سلام الله هنا ليس مجرد تحية، بل هو اعتراف بالمكانة السامية التي يحملها عبد الناصر في تاريخ الأمة العربية.
بهذا الفهم، المقطع يتجاوز الحزن الشخصي على رحيل جمال عبد الناصر ليصبح تعبيرًا عن حزن الأمة جمعاء لفقدان قائد جسد آمالها وطموحاتها، ويظل ذكره حيًا كما لو أنه "القادم عند الفجر" الذي لم يمهله القدر لإكمال مسيرته على أرض فلسطين.
محمد الفيتوري، من خلال هذا الرثاء، يعبر عن مشاعر جيل بأكمله رأى في عبد الناصر رمزًا للكرامة والنضال، ويجعل من هذه الأبيات تجسيدًا للألم المشترك والفقد الكبير الذي شعر به العالم العربي عند رحيله.