شباب حول الرسول، "عمير بن سعد، برأه الله في القرآن"
منذ فجر الإسلام، أحاط بـرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، نخبةٌ من المسلمين الأوائل، في الوقت الذي آمن فيه فتيةٌ صغارُ السن بالله؛ حبًّا في النبي، وجهروا بالإسلام في شجاعة نادرة، رغم ما كان يكتنفُ البيئة المحيطة من تقديسٍ للأصنام، والأوثان، وإدمانٍ للأدران، وصمدوا بقوةٍ أمام ضغوطِ الآباءِ والأمهاتِ وعتاةِ المشركين.
تربَّوا في مدرسةِ الرسولِ، صلَّى الله عليه وآله وسلم، وحرصوا على مراقبة تصرفاته، وأنصتوا لنصائحه، وحفظوا أقواله، وفقهوا أحاديثه.
كانوا أصحابَ فكرٍ سديدٍ، فأعلنوا اتباعهم للنبي، وتمسكوا بدينهم، وبذل بعضهم روحه من أجل العقيدة، وبعضهم فاق الكبار علما وفقها وشجاعة.
إنهم "شبابٌ حولَ الرسول".
قصتنا اليوم تدور حول صحابي جليل هو عُمَيْرُ بن سعد الأنصاري، تجرَّع كأس اليتم في سن صغيرة، فقد مَضى أبوه إلى ربه دون أن يترك له مالا أو معيلا. لكن أمَّه ما لَبِثت أن تَزَوَّجت من ثَرِيٍّ من "الأوس"، ويُدْعى الجُلاسَ بنَ سُويَدٍ، فَكَفَلَ ابنَها عُمَيْرا، وأحسن إليه حتى جعله يَنْسى أنّه يتيم. فأحـب عميرٌ الجُلاس حُبَّ الابنِ لأبيه.
إسلام عمير بن سعد
أسلم عمير بن سعد، وهو صغير لم يجاوز العاشِرة من عمره إلا قليلا.
كان على حَدَاثَة سنه لا يتأخَّر عن صلاة خلف رسولِ اللّه، صلى الله عليه وآله وسلم.
في السنةِ التاسعةِ للهِجْرَة، وبعد انتهاء حصار المسلمين للطائف، أعلن الرسول صلى اللّه وسلامُه عليه عَزمه على غَزْوِ الرومَ في تَبُوك، وأمَرَ المسلمين بأن يستعدّوا ويَتَجَهزوا لذلك.
غزوة تبوك وجيش العُسْرة
لبى المسلمون دعوة نبيهم، صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يتجهزون ويستعدون.
غيرَ أن طائفة من المنافقين أخذوا يُثَبطون العَزائِم، ويوهنون الِهمَمَ، وكأنهم طابور خامس، ويَغمِزون الرسولَ صلوات اللّه وسلامه عليه (يتنمرون عليه، والعياذ بالله).
وقبل انطلاق الجيشِ بأيام، عاد عُمَيْرُ إلى بيته بعد أداء الصلاة في المسجِد سعيدا.. فقد رأَى نسـاء المهاجِرين والأنصار يقبِلن على رسولِ اللّه، صلى الله عليه وسلم، وَيَنْزَعن حُلِيَّهنَّ ويلقِينها بين يَدَيْه ليُجهِّز بثمنها الجيش، وقد أسماه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، “جيش العسرة”.
وأبصر عمير بعينيْ رأسه عثمان بن عفَّان يأتي بجراب فيه ألفُ دينار ذهبًا، ويقدِّمُه للنبيِّ عليه الصلاة والسلام.
وشهد عبد الرحمن بن عوف يحملُ على عاتقه مائتي أوقيَّة من الذَّهَب ويُلْقِيها بين يدي النبيِّ.
بل إنَّه رأى رجلًا يعرضُ فراشه للبَيع ليشتري بثَمنه سيفًا يقاتل به في سبيل اللّه.
فأخذ عُمَيْرٌ يستعيد هذه الصور الرائعةَ، ويعجبُ من تباطُؤ الجُلاس عن الاستعداد للذهاب مع الرسول صلواتُ اللّه وسلامه عليه، والتأخر عن البَذْل على الرغم من قدرته ويَساره.
وكأنَّما أراد عُمَيْرٌ أنْ يَسْتَثير همَّةَ الجُلاسِ، ويَبْعَثَ الحَمِيَّةَ في نَفْسه، فأخذ يَقُصُّ عليه أخبار ما سمع ورأى وخاصَّةً خبر أولئك النَّفَر من المؤمنين الذين قَدموا على رسولِ اللّه، صلى الله عليه وسلم، وسألوه في حماسة ولهفة أنْ يَضُمَّهُمْ إلى الجيش الغازي في سبيل اللّهِ فَرَدَّهم النبيُّ لأنَّه لا يجد عِنده من الرَّكائبِ ما يحمِلُهم عليه، فتولَّوا وأعيُنُهُم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما يُبلِّغُهُمْ أمْنِيَتّهَمْ في الجهاد.
صدمة مروعة
لكن الجُلاسَ ما كادَ يَسْمَعُ من عُمَيْرٍ ما سَمِعَ حَتى انطلقت من فَمِه كلمة اصابت الفتى بصدمة مروعة؛ إذ سمِعَه يقول: "إنْ كان محمد صادقًا فيما يدَّعيه من النُبوَّةِ فَنَحْن شر من الحَميِرِ".
صُدم عُمَيرٌ مِمَّا سَمِعَ، فما كان يَظُنُّ أنَّ رجلًا له عقل الجُلاسِ وسنُّه يتفوه بمثل هذه الكلمة التي تُخْرج صاحبها من الإيمان على الفور، وتُدْخِلُه في الكفر من أوسع أبوابه.
أخذ عقل عُمَيْرِ بن سعد يفكر فيما يجب عليه أن يصنعه، بعد أن اكتشف أن الرجل الذي رباه وأحسن إليه من المنافقين!!.
ووقع في حيرة بالغة؛ ففي السكوت عن الجُلاسِ والتستُّر عليه خيانة للّه ورسوله، وإضرارٌ بالإسلام.
وفي الإبلاغ عما سَمعَـه عقوقٌ بالرَّجُل الذي يَنْزلُ من نَفْسـه منْزلَةَ الوالد، ومجازاة لإحسانه إليه بالإساءة؛ فهو الذي آواه من يتم وأغْنَاه من فقر وعوّضه عن فَقْد أبيه.
وكان على الفتى أنْ يخْتَار بَيْنَ أمْرَيْنِ أحْلاهما مُرٌ.. ولم يتردد طويلا، وسرعان ما حسم أمره.
فالتفت إلى الجُلاس، وقال: واللّه يا جُلاسُ ما كانَ على ظَهْرِ الأرضِ أحدٌ بعْدَ محمد بنِ عبدِ اللّه أحب إليّ مِنك، فأنت آثرُ الناس عندي، وأجلُّهم يدًا علّي، ولقد قُلْتَ مَقَالةً إن ذَكَرْتُها فَضَحْتُكَ، وإنْ أخْفَيتُها خُنْتُ أمانتي وأهْلكْتُ نفسي وديني، وقد عزمتُ على أنْ أمْضِيَ إلى رسولِ اللّهِ، صلى الله عليه وسلم، وأخْبِرَه بما قلت، فكن على بَيَنّةَ من أمرك.
مضى الفتى عميرُ بنُ سعد إلى المسجد، وأخبرَ النبيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ بما سَمِعَ من الجُلاسِ بن سُوَيْدٍ.
فاستبْقاه الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأرسل أحد أصحابِه ليدعو له الجُلاسَ.
جاءَ الجُلاسُ فَحَيّا رسول اللّه، صلى الله عليه وسلم، وجلس بَيْنَ يَدَيْه، فقال له النبيُّ عليه الصلاة والسلام: "ما مَقالة سَمِعَها مِنْكَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ؟!"، وذَكَرَ لَهُ ما قَالَهُ. فقال: كذب علَّي يا رسول اللّه وافترى، فما تَفَوَّهْتُ بِشيء من ذلك.
وأخذ الصحـابةُ يُنَقِّلون أبصارهم بين الجُلاسِ وفَتاه عُمَيْرِ بن سَعْدٍ كأنهم يريدون أن يتبينوا من تعبيرات وَجْهَيْهما ما يكِنّه صدراهما.
وجعلوا يَتَهامَسون: فقال واحدٌ من الذين في قلوبِهم مرضٌ: فتًى عاق أبى إلا أن يُسِيءَ لمن أحسن إليه.
وقال آخرون: بل إنَّه غلامٌ نشأ في طاعة اللّه، وإنَّ قَسمات وجهه لَتنطق بصدقه.
والتَفَت الرَّسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى عمَيْرٍ فَرأى وجهَهُ قد احتَقَنَ بالدَّم، والدُّموعُ تَتَحَدَّرُ مِدرارًا مِنْ عَيْنًيه، فتتساقَطُ على خَدَّهِ، وهو يقول: "اللَّهُمَّ أنزِلْ على نَبيِّكَ بَيَانَ ما تَكلَّمْتُ به.. اللَّهُمَّ أنزِلْ على نَبيِّكَ بَيَانَ ما تَكلَّمْتُ به".
فانْبَرَى الجُلاسُ، وقال: إنَّ ما ذكرتُه لك يا رسول اللّهِ هو الحقُّ، وإن شِئْتَ تحالَفنا بَيْنَ يديك.. وإني أحْلِفُ باللّه أني ما قلتُ شَيئًا مِمَّا نَقَلَه لك عُمَيْر.
وما إنْ انتهى من حَلِفهِ وأخَذَتْ عيونً الناسِ تَنْتَقِلُ عنه إلى عمير بنِ سعدٍ حتى غَشِيَتْ رسولَ اللّهِ، صـلواتُ اللّه وسلامُه عليه، السكينةُ، فعرف الصحابة أنه الوحيُ، فَلَزموا أماكنهم وسكنتْ جوارحهم ولاذوا بالصَّمت، وتَعَلَّقَت أبصارهم بالنبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم.
برأه الله في القرآن
وهنا ظَهَرَ الخَوفُ والوَجلُ على الجُلاس، وبَدَا التَّلَهُّفُ والتَّشَـوُّفُ على عُمَيْرٍ. وظَلَّ الجميع كذلك حتَّى سُرِّي عن رسولِ اللّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَتَلا قولَه عز وجل: "يَحْلِفُونَ باللّهِ ما قَالُوا ولَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِم"، إلى قوله تعالى: "فإنْ يَتُوبوا يَكُ خيرًا لهم وإنْ يَتَولَّوا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أليمًا".
فارتعد الجُلاسُ من هوْل ما سمعَ، وكاد يَنْعَقِدُ لسانه من الجزع، ثُمَّ التَفَت إلى رسول اللّهِ، صلى الله عليه وسلم، وقال: بل أتوبُ يا رسولَ الله.. بل أتوب.. صدق عميرٌ - يا رسول اللّه- كنتُ من الكاذبين.. اسْألِ اللّهَ أن يَقْبَلَ تَوْبَتِي، جُعِلْتُ فِدَاكَ يا رسولَ اللّهِ.
وهنا تَوجَّه الرسولُ، صلواتُ اللّهِ عليه، إلى الفتى عمير بنِ سعدٍ، فإذا دُمُوعُ الفَرَح تُبَلِّلُ وَجْهَهُ المشرِقَ بنورِ الإيمانَ.
فمدَّ الرسولُ يده الشريفةَ إلى أذنه وأمسكَها بِرفق، وقال: "وَفَّت أذُنُكَ- يا غلامً- ماسَمِعَتْ، وصَدَّقَكَ رَبُّك".
عاد الجُلاسُ إلى حَظِيرَة الإسلامِ وحَسُن إسلامُه.
وعَرَفَ الصحابةُ صلاحَ حاله مِمَّا كان يُغْدِقه على عميرٍ من بِرٍّ. وكان يقول كُلَّما ذُكِرَ عمير: جزاه اللّه عَنِّى خيرًا، فقد أنقذقني من الكُفْرِ، وأعتَقَ رَقَبَتي من النار.
عمير.. والي حمص
كان أهل "حِمْصَ" شديدي التذَمّر من ولاتهم، كثيري الشَّكوى منهم، فما جاءهم من وال إلا وجدوا فيه عيوبًا، وأحْصَوْا له ذُنُوباَ، ورفَعوا أمره إلى خليفة المسلمين، طلبوا منه أن يُبْدِلَهُمْ به من هو خيرٌ منه.
فَعزَم ابن الخطاب أن يبعث إليهم بوالٍ لا يجدون فيه مَطْعنًا ولا يَرَوْنَ في سيرَتِه مَغْمَزًا.
فكر في الرجال من حوله، فلم يجد خيرًا من عُمَيْرِ بن سعدِ.. رَّغمِ أنَّ عُمَيْرًا كان إذ ذاك في أرض الجزيرة وفي بلاد الشَّـام مع الجَيْشِ الغازي في سبيل اللّه، فَيحرِّر المدن ويَدُكُّ المعاقل، ويُخْضِعُ القبائِل، وينشر المساجِد في كلِّ أرض يدخلها.
اقرأ كذلك: شباب حول الرسول، محمد بن عبد الله بن جحش، "هاجر الهجرتين وصلى القبلتين"
دعاه أمير المؤمنين وعهد إليه بولايةِ "حمص"، وأمره بالتَّوَجُّه إليها، فأذعن للأمر على كُرْهٍ منه لأنه كان لا يًؤثِر شيئًا على الجهاد في سبيل اللّه.
بَلَغ عُمَيْرٌ "حِمْصَ" فدعا النَّاسَ إلى صلاة جامعة.. ولما قُضِيَت الصَّلاة خطب النَّاسَ، فَحِمَدَ اللّهَ وأثنَى عليه، وصلى على نَبِيِّه، ثم قال:
"أيها الناسُ، إنَّ الإسْلامَ حِصنٌ مَنِيعٌ وبابٌ وَثِيقٌ، وحِصْنُ الإسلامِ العَدْلُ وبابُه الحَقُّ. فإذا دُكَّ الحِصْنُ وحُطِّمَ البابُ اسْتُبيحَ حِمَى هذا الدِّينِ. وإنَّ الإسْلامَ ما يزالُ مَنيعًا ما اشْتَدَّ السُّلْطان.. ولَيْسَتْ شِدَّةُ السُّلطانِ ضربًا بالسَّوْط ولا حملًا بالسَّيفِ ولكِنْ قَضَاءً بالعَدْلَ وأخْذًا بالحَقِّ".
ثم انصرف إلى عمله لِيُنَفِّذَ ما اختطه لهم من دستور في خطبته القصيرة.
قَضى عُمَيْرُ بن لسَعْدٍ حَوْلًا كامِلًا في "حِمْصَ" لم يَكْتُب خلاله لأمير المؤمنين كتابًا، ولم يبْعثْ إلى بيت مالِ المسلمين من الفَيءِ درْهمًا ولا دينارًا، فأخذت الشُّكُوكُ تساور عُمَرَ إذْ كانَ شديد الخَشْيَة على ولاته من فِتْنَة الإمارة.
فقال لكاتبه: اكْتُبْ إلى عُمَيْرِ بنِ سَعْد، وقُلْ له: إذا جاءَكَ كِتابُ أمِيرِ المؤمنين فَدَع حِمْصَ وأقْبِلْ عليه، واحْمِلْ مَعَكَ ما جَبَيْتَ مِنْ فَيءِ المسلمين.
تلقَّى عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ كتاب عُمَرَ، فأخذ جِراب زاده، وحمل على عاتِقه قَصعَته، ووعاء وضوئه، وأمسك، بيده حَرْبَتَه، وخَلَّف حِمْصَ وإمارتها وراءه، وانْطَلَقَ يَحُثُّ الخطا، مشيًا على قَدميه، إلى المدينة.
فما كادَ عمَيرٌ يصل إلى المدينةَ حتى كان قد شحَبَ لونُه، وهزُل جسمه وطال شَعْرُه، وظَهَرَتْ عليه وعَثْاءُ السَّفَرِ. دخل عُمَيْرٌ على أمير المؤمنين، فدهش من حالَتِه وقال: ما بكَ يا عُمَيْر؟!
فقال: ما بي من شيءٍ، يا أمير المؤمنين، فأنا صَحيحٌ مُعافًى، بحمد اللّه، أحْمِلُ معي الدنيا كُلَّها وأجُرُّها من قَرْنَيْها.
فقال: وما معك من الدنيا؟ (وهو يَظُنُّ أنَه يحْمِلُ مالًا لبـيت مال المُسْلِمين).
درس في الزهد
فقال: معي جِرابي وقد وضعت فيه زادي. ومعي قصعتي آكلُ فيها وأغْسِلُ عليها رَأسي وثيابي. ومعي قِربَة لِوُضوئي وشرابي.. ثم إنَّ الدنيا كُلَّها- يا أميرَ المؤمنين- تَبَعٌ لمتاعي هذا، وفُضلةٌ لا حاجَةَ لي ولا لأحد غيري فيها.
فقال عمر: وهل جئت ماشيًا؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين.
فقال: أما اُعطيتَ من الإمارة دابَّةً تركَبُها؟! فقال: هم لم يعطوني، وأنا لم أطلب منهم.
فقال: وأينَ ما أتُيْتَ بهِ لِبَيْتِ المالِ؟ فقال: لم آتِ بِشيء. فقال: ولم؟!
فقال: لما وَصَلْتُ إلى حِمْص جَمعْتُ صلحاء أهلها، ووليتم جمْعَ فَيْئهم، فكانوا كُلما جمعوا شيئًا منه استشَرْتُهم في أمره، ووضعته في مواضعه، وأنفقتُه على المُستَحِقِّين منهم.
فقال عمر لكاتبه: جَدِّد عهدًا لِعُمَير على وِلايةِ حِمْص.
فقال عمير: هيهات.. فإن ذلك شَيء لا أريده، ولَن أعْمَلَ لَكَ ولا لأحدٍ بَعْدَكَ يا أميرَ المؤمنين.
ثم استأذَنَهُ في الذَّهاب إلى قَرْيَةٍ في ضواحي المدينَةِ يُقيم بِها أهْلُه، فأذنَ له.
لم يمض على ذهاب عُمَيْرٍ إلى قَرْيته وقتٌ طويل حتى أراد عُمَرُ أنْ يَختَبِره، وأن يَسْتَوثقَ من أمره، فقال لواحدٍ من ثِقَاتِه يدعى الحارثَ:
انطلق يا حارثُ إلى عُمَيْرِ بنِ سعد، وانْزِل به كأنّكَ ضَيْف، فإن رَأيتَ عليه آثارَ نِعْمَة، فَعدْ كما أتيت.
وإن وَجدْتَ حالًا شديدَةً فأعطِه هذه الدنانير، وناوَله صُرِّة فيها مائة دينار.
انطلق الحارثُ حتى بلغ قريةَ عُمير، فَسَأل عنه فَدُلَّ عليه.
فلمَّا لقيه قال: السلامُ عليك ورحمة الله. فقال: وعليك السلامُ ورحمةُ اللّه وبرَكاته، من أين قَدمت؟
فقال: من المدينة. فقال: كيفَ تَرَكتَ المسلمين؟ فقال: بِخَيْر. فسأله عمير: كيف أميرُ المؤمِنين؟
فقال الحارث: صَحِيح صالِحٌ. فقال: أليس يُقيمُ الحدود؟!
قال: بلى، ولَقَدْ ضَرَبَ ابنًا له لِفاحِشَةٍ أتاها، فَماتَ من الضَّرب.
فقال: اللَّهمَّ أعِنْ عُمَرَ، فإني لا أعْلَمُه إلا شديدَ الحُبِّ لك (أي لله).
أقام الحارثُ في ضيافَة عُمَيْرِ بنِ سعدٍ ثلاث ليال، فكانَ يُخْرِج له في كل لَيلَة قُرْصًا من الشعير.
فَلَمَّا كان اليوم الثالث، قال رَجُلٌ من القوم للحارِثِ: لقد أجْهَدْتَ عُمَيْرًا وأهله، فَلَيْسَ لهم إلا هذا القُرْصُ الذي يُؤثِرونك به على أنفُسِهِمْ، وقد أضرَّ بهمُ الجوعُ والجَهْدُ، فإنْ رأيت أن تتحوَّلَ عَنْهُم إليَّ فافْعَلْ.
عند ذلك أخرج الحارِثُ الدَّنانيَر، ودفعها إلى عمَيْر. فقال عُمَيْر: ما هذه ؟!! فقال الحارِثُ: بَعَثَ بِها إليكَ أميرُ المؤمنين. فقال: رُدَّها إليه، واقْرَأ عليه السَّلامَ، وقُل له: لا حاجَةَ لِعُمَيْرٍ بها.
فصاحَتْ امرأته، وكانت تَسْمَعُ ما يدور بين زوجِها وضيفه. وقالت: خُذْها يا عُمَيْرُ، فإن احتَجْتَ إليها أنفقتَها، وإلا وضعْتَها في مَوَاضِعِها، فالمحتَاجُون هنا كثير.
فلما سمع الحارث قَوْلها ألقَى الدَّنانيرَ بَيْنَ يَدَيْ عُمَيْر وانصرف، فأخذها عمير وجعلها في صُرَرٍ صغيرةٍ ولم يبت لَيْلَتَه تلك إلا بعد أن وزَّعها بين ذوِي الحاجاتِ، وخَصَّ منهُم أبناء الشُّهداء.
عاد الحارِثُ إلى المدينة فقال له عمرُ: ما رأيتَ يا حارِثُ؟ فقال: حالًا شديدَةً يا أميرَ المؤمنين.
فقال: أدَفَعْتَ إليه الدنانير؟ فقال: نعم، يا أمير المؤمنين. فقال: وما صَنع بها؟!
فقال: لا أدْرِي، وما أظُنّه يُبْقى لنَفِسه مِنْها دِرهمًا واحدًا.
فكَتب الفاروقُ إلى عُمَيْرٍ يقول: إذا جاءَكَ كتابي هذا فلا تَضَعْهُ من يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ عليّ.
توجَّه عميرُ بنُ سَعْدٍ إلى المدينة، ودَخَلَ على أميرِ المؤمنين، فَحَيَّاه عُمَرُ ورحَّبَ به وأدنى مَجْلِسَهُ، ثم قال له: ما صَنَعْتَ بالدنانير يا عُمَير؟!
فقال: وما عليكَ مِنْها يا عُمَرُ بعد أنْ خَرَجتَ لي عنها؟! فقال: عَزَمْتُ عليك أنْ تُخْبِرَني بما صَنَعْتَ بها؟
فقال: ادَّخَرْتُها لِنَفْسي لأنتَفِعَ بها في يَوم لا يَنفَعُ فيه مالٌ ولا بَنون.
فَدمعت عينا عُمر، وقال: أشْهَدُ انَكَ من الذين يؤثرون على أنفُسِهم ولو كان بهم خصاصة. ثم أمرَ له بِوَسق (معونة) من طعام وثَوبين.
فقال: أمَّا الطعامُ فلا حاجَةَ لَنَا بهِ يا أميرَ المؤمنين، فَقَدْ تَرَكْتُ عندَ أهْلي صَاعَينِ من شَعير، وإلى أنْ نأكُلهما يكون اللّه، عَزَّ وَجَلَّ، قد جاءنا بالرزقِ.
وأمّا الثّوبان فآخذهما لأمّ فلان (يعني زوجَتَه)، فقد بَلِىَ ثوبها وكادَت تَعْرَى.
لم يمض طويل وقت على ذلك اللقاء بينَ الخليفة وصاحبِه حتى قدر اللّه لِعُمَيْرِ بن سعدٍ أن يلحق بأحبابه في الفردوس الأعلى، بعد أن طالت أشواقه إلى لقائهم.
فلما بلغ عمر نَعْيُهُ غطى الحزن وجهه، واعتَصرَ الأسى فؤاده، وقال: "وَدِدْتُ أنَّ لي رجالًا مِثْلَ عُمَيْرِ بنِ سعد أسْتَعينُ بهم في أعمالِ المسلمين".
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوادث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.