تخاريف صحف قومية
قرأت مقالًا للأستاذ محمود بسيونى رئيس تحرير أخبار اليوم على صدر الصفحة الثالثة السبت الماضي، تحت عنوان «جاهزون لكل الاحتمالات»، وقد جاء بمقال سيادته ما لا يخطر على قلب بشر عهدوا وعرفوا ماهية الكيان الصهيونى ودوره فى المنطقة باعتباره قاعدة عسكرية أمريكية غربية جاءت لكى تبقى وتتمدد إلى ما هو أبعد من فلسطين.
يبدأ مقالته بما تذكره من قول السيد حسن نصر الله بعد عدوان الكيان المحتل على لبنان الشقيق فى العام 2006م بأنه لو علم أن اختطاف جنديين إسرائيليين سيؤدى إلى كل هذا العنف ما أقبل على ذلك، وهكذا “يبان الجواب من عنوانه” كما يقولون.. بداية انهزامية ومختزلة وساذجة.
يدلل سيادته بافتتاحيته للمقال على أن حماس ارتكبت حماقة فيما فعلته، إذ إن ما فعلته أدى إلى ضحايا بالآلاف من الشهداء والجرحى وعودة دبابات العدو إلى رفح التى خرجت منها قبل تسعة عشر عاما، ليصبح هناك واقع جديد، حسب رؤية سيادته.
ويرى -لا فض فوه- أن فلسطين ضحية المتطرفين ممن حولوا مدينة السلام إلى هدف لحرب دينية بين من يحاولون هدم المسجد الأقصى وبين من يطاردون اليهود!! ويقتلونهم على الهوية -أى والله قال كده- وهذا يعنى أن سيادته يرى أن دفاع أهل بلد احتلته قوة غاشمة نوع من القتل على الهوية.
لا أعرف من أين استقى الأستاذ محمود رؤيته، أو ما هى مصادره التاريخية “الخزعبلاتية” التى اعتمد عليها فى بناء وجهة نظره، وهى الرؤية التى تساوى بين شعب زارته بليل قوة احتلال من عصابات مدعومة من الغرب لاحتلال بلاده، وهو يصور لنا الأمر باعتبار أن دفاع صاحب الأرض عن أرضه ضد محتل قاتل يعتبر قتلا على الهوية.
ولا أعرف كيف سولت له نفسه أن يختزل تاريخ القضية على هذا النحو الساذج والسطحى بأن هناك طرفين أحدهما جاء فقط ليهدم المسجد الأقصى “يا دوب” بينما كان واجبا على أصحاب الأرض أن يرحبوا به ويدعموه ويقدموا له فروض الولاء والطاعة وباقة من زهور صيفية لزوم الترحاب.
لن أطيل فيما قدمه الأستاذ رئيس تحرير أخبار اليوم، وهى صحيفة بالمناسبة قومية، أى أن ملكيتها للشعب، وهذا الشعب هو الذى دفع من دماء أبنائه الكثير دفاعا عن الأرض والعرض وليس من أجل قتل اليهود على الهوية.. وبناء على الرؤية المدهشة للأستاذ بسيونى كان واجبا على جيش مصر أن يرحب بهم بدلا من أن يقاتلهم ويطردهم من أرضه.
إن تناول قضية هى الأهم على هذا النحو الساذج، وفى صحيفة قومية يملكها القوم، يعتبر جريمة فى حق نضالنا وتاريخنا وجهادنا ويختزل مذابح على مر التاريخ باعتبارها بين طرفين لكل منهما ضالته؛ فالأول “يا دوب جاى يهدم الأقصى”، بينما الثانى متطرف يقتل على الهوية!!
لم تتوقف جريمة التناول على هذا النحو عند المساواة بين محتل ومقاوم، بل إن سيادته ساوى بين نتنياهو وبن غفير، من ناحية، وبين السنوار والضيف، من ناحية أخرى، باعتبارهما طرفين متطرفين، وهى معادلة من العار، ساوت بين محتل ومقاوم، فالأول مرفوض قانونيا وأخلاقيا ودوليا، والثانى مجاهد ومناضل ودعمه فرض عين لا فرض كفاية.
المصيبة أن بسيونى لم يفرق بين حسابات الشرف وحسابات العلف، فالأول هو ما دفع أهلنا فى الجزائر الأبية إلى التضحية بمليون ونصف المليون شهيد من أجل التحرر، أما الذين يقيسون الأمر عند حسابات العلف فإنك تراهم فى عيادات أطباء التخسيس يعانون من سمنة مفرطة تودى بحياتهم إلى هلاك مثلما تهلك البعير، وهم بالمناسبة أفراد عاديون ومثقفون وكتاب وحكام.
ضمن حسابات الشرف يا أستاذ بسيونى ما نعلمه لأولادنا وبناتنا ونتحاكى بقصصهم وبطولاتهم من شهداء مصر فى العام 1948 عام النكبة، ومن بعده فى العام 1967 وهو عام الهزيمة، وفى العام 1973م وهو عام النصر المجيد واستعادة الكرامة.. إن هؤلاء لم يكونوا متطرفين يسعون إلى القتل على الهوية، وهؤلاء المقاتلون فى أرض الشرف والعزة فى غزة إنما يقاتلون دفاعا عن شرف أمة تحتضر ولا يزال فيهم دم عربى أبي.
الغريب أن إطلالة الأستاذ كرم جبر مع الزميل جابر القرموطى ببرنامجه “مانشيت” فى الليلة السابقة لمقال بسيونى دارت فى نفس الفلك.. فلك المساواة بين المقاوم وبين المحتل، وتحدث أيضا عن أن فلسطين ضحية الهتافات الحماسية.. الفارق بين بسيونى وجبر، أن جبر أكثر احترافية فى طرحه من بسيوني.
وقال جبر إن مصر لن تدخل حربا لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وأنا معه فيما قال إننا يجب أن ندير الموقف بحكمة، ولكن السؤال: هل فعلا لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟ وكيف يكون ذلك ودبابات العدو تصول وتجول على حدودنا، وكيف يتأتى ذلك وقد دفعنا من الدم الغالى الكثير من أجل القضية؟ هل راحت دماء شهدائنا هدرا؟ وهل يجب أن نظل دوما لا بديل لنا إلا السلام؟ وماذا لو أن الأمور تعقدت؟! عفوا إن لنا فيها ما هو أبعد من ناقة كرم جبر وجمل محمود بسيوني.