متى يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون؟!
في تراثنا كنوز تستحق أن نسلط الضوء عليها؛ لتعرف الأجيال الجديدة المشدودة لحضارة الإنترنت والتكنولوجيا؛ أن أجدادنا تركوا تراثًا قيمًا لولاه ما قامت حضارة للغرب ولا عرفوا للتقدم سبيلًا.
تراثنا وحضارتنا ليست عريقة فحسب بل إنها تملك مقومات البقاء والخلود؛ إذا أحسنا فهمها واستلهام معانيها وما تحمله من مضامين فكرية وعلمية لا تزال مثار إعجاب المنصفين من الغرب والمستشرقين.
وحين نعود لقراءة بعض ما كتبه مؤسس علم الاجتماع العلامة عبد الرحمن ابن خلدون في مقدمته المشهورة، نجده يقدم قراءة عميقة لما يحدث لأمتنا اليوم، فحين يقول منذ قرون "إن المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب، في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب أن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها".. أليس ذلك ما يفعله كثير من بنى جلدتنا الذين انبهروا بالغرب ولغاته، ونفضوا أيديهم وعقولهم من لغتنا العربية لغة القرآن.
مهمة الدولة
ابن خلدون قدم قراءة متقدمة جدًا لنفسية الشعوب المقهورة التي تسوء أخلاقها، وكلما طال تهميش إنسانها يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى اللقمة والغريزة.
وعِندما تضعف الأمم يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدعون والقَوالون والمتصعلكون، وضاربو المندل وقَارئو الكف والطالع، والمتسيسون والمداحون والإِنتهازيون، فيختلط ما لا يختلط، ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل، ويسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف، ويعلو صوت الباطل ويخفت صوت الحق، وتشح الأحلام ويموت الأمل، وتزداد غربة العاقل، ويصبح الإِنتماء إِلى القَبيلة أَشد إِلصاقا وإِلى الأوطان ضربا مِن ضروب الهذيان.
ابن خلدون لا يرى قيام الحياة الاجتماعية إلا بالدولة، ويقول: "الدولة والملك والعمران (أي الاجتماع) بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها، وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالدولة دون العمران (الاجتماع/المجتمع) لا تُتصور، والعُمران دون الدولة والملك متعذر؛ لما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع"؛ فمهمة الدولة حماية المجتمع وأفراده، والمجتمع هو أساس الدولة.
فهل يدرك كل مسئول أن مهمة الدولة حماية الفرد ورعايته والعمل على راحته، وليس تركه نهبًا لجشع التجار وارتفاع الأسعار دون حسيب ولا رقيب.. مهمة الدولة الحفاظ على العقد الاجتماعي والعلاقة بين المواطن والحكومة، وليس التركيز على الجباية ورفع أسعار الخدمات والنظر للمواطن على أنه عميل أو زبون ينبغي أن يدفع لكى يحصل على الخدمات الحكومية التي لم تعد مجانية ولا مدعومة!