جمال حمدان الذي نسيه الإعلام!
عبرت بنا الذكرى الحادية والثلاثون لرحيل مفكرنا العبقري جمال حمدان صاحب شخصية مصر الذي رحل في صمت وغموض في 17 أبريل 1993.. مرت أمس ذكرى رحيله دون أن يذكر إعلامنا عنه شيئًا.. ولست أدرى أهى غفلة أم توهان أم خصام مع العلم والقدوة الحقيقية.
فكيف نتذكر أهل الفن والطرب ولاعبى الكرة أحياءً وأمواتًا ثم نغفل أصحاب البصمة الحقيقية، بناة الشخصية، مشاعل التنوير، بوصلة الأمة وضميرها الحى.. فماذا نتوقع من أجيال تتربى على ميديا تحتفى بخناقات حمو بيكا وطلاق وزواج وخناقات الفنانات.. ولا تلتفت لعلمائها ومفكريها؟!
هل أدركنا لماذا توارت العبقريات عن أمتنا؟! فلم نعد نجد كاتبًا شابًا مرموقًا يشار له بالبنان ولا أديبًا بارعًا ولا عالمًا فذًا يقود مجتمعه وبلده نحو الريادة والتفرد كما كنا قبل عقود وعقود.. هل كانت مصادفة أن يتزامن وجود العباقرة في كل المجالات أمثال طه حسين والعقاد والمازنى وتوفيق الحكيم أو مصطفى مشرفة ونبوية موسى وغيرهم من أقطاب العلم والثقافة، ثم يختفى كل هذا فجأة، إلا قليلًا؟!
نهر العبقرية يتدفق حين تحتفى الأمة، أي أمة، بعلمائها ومفكريها وقادتها التاريخيين الذين صنعوا الأمجاد، حين نتمسك بتعليم أطفالنا تاريخ وسيرة نجباء الأمة وعباقرتها وشخصياتها المتفردة حتى تشب تلك الأجيال على استلهام جوانب العظمة من تلك المنارات المتوهجة التي تعدي بالنجاح والتميز.
جمال حمدان مثقف وطنى ومفكر استراتيجى من طراز فريد، صاحب رؤية عبقرية لما ينبغي أن تكون عليه الجغرافيا والأمة والدولة، وهو صاحب مدرسة وطنية في الاستراتيجيات والأفكار الخلاقة.. دائمًا ما كان يحذر من الاستسلام لليأس ويدعو للتمسك بالأمل والتفاؤل الحذر.. ترك تراثًا عظيمًا من الأفكار الخلاقة القابلة للتطبيق والتي يمكنها أن تحدث طفرة ونهضة غير مسبوقة.
لم يزده الموت إلا توهجا فى الذاكرة الثقافية وفي وعى الأجيال تلو الأجيال؛ فالإقبال الواضح على أعماله وخصوصًا من الشباب، ولاسيما مشروعه الفكرى الرائد “شخصية مصر” الذي يصلح كل سطر فيه عنوانًا لكتاب كامل.. يضعنا في مواجهة حقيقة مهمة نص عليها القرآن الكريم بقوله:"فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ".
مقولات مأثورة
جمال حمدان ولد في الرابع من فبراير عام 1928 بقرية “ناي” في القليوبية، له مقولات مأثورة منها مثلًا:”إن لم تحقق مصر محاولة قوة عظمى تسود المنطقة بأثرها فسوف يتداعى عليها الجميع يوما كالقصعة"!.
ولم يكف جمال حمدان عن التحذير بشدة قبيل رحيله من متغيرات خطرة تضرب في صميم الوجود المصري ليس فقط من حيث المكانة وإنما المكان أيضًا، يقول:"كانت مصر سيدة النيل والآن انتهى هذا إلى الأبد وأصبحت شريكة محسودة ومحاسبة ورصيدها المائي محدود وثابت وغير قابل للزيادة إن لم يكن للنقص. فيما وصل الطفح السكاني إلى مداه"..
كما لا يزال يرى مصر قطب قوة وقلب إقليم حتى وهي مستعمرة محتلة ومهما تكن أوضاعها الداخلية فقد كانت مصر-للغرابة والدهشة-مركز دائرة ما وليست على هامش دائرة أخرى.. وتلك الصفة الجوهرية بلا شك ترتد إلى جذور جغرافية أصيلة وكامنة فيما يرجع الدور القيادي لمصر إلى موقعها الجغرافي الذي تكامل فيه الموضع مع الموقع.
وقد وصف جمال حمدان مصر بأنها مستودع القوة البشرية الطبيعي وخزان الطاقة الحيوية الأول في المنطقة، ومن ثم آلة الحرب الأساسية وقلعة العروبة الحامية وقوتها الضاربة.. إنها القلعة والحصن والدرع والترس جميعا ومن هذا الدور الاستراتيجي الفذ بالدقة استمدت ركنا هاما من أركان زعامتها التقليدية في المنطقة وقيادتها الطليعية لها.. إنها عاصمة العرب استراتيجيا وعلى كتفيها وقع عبء الدفاع عن المنطقة كلها عبر التاريخ.
كما حذر جمال حمدان من الخلافات العربية بقوله: في جميع الحالات لابد من حصر الخلاف في دائرة التكتيك الإجرائي وداخل إطار الحوار الأخوي وبعيدا عن الشقاق المدمر.. إن نصف قوة العرب في وحدتهم بينما نصف استراتيجية العدو أن يشق هذه الوحدة.
ترى لو كان جمال حمدان حيًا يرزق بيننا فماذا كان سيقول عن واقع أمة مهددة من طوب الأرض.. وهل يليق بنا أن نغفل ذكرى رحيل مثل هذا العبقري دون أن نعيد للأذهان كلماته وإنجازاته؟! ويبقى أن نؤكد أن ما قاله الراحل جمال حمدان يتحقق اليوم.. رحمه الله