بدراوي وكليوباترا وجهان لعملة واحدة
حجزت رقما من آلة حجز الأرقام، جلست في المكان المخصص انتظارا للدور حتى نادى مناد في ميكرفون المستشفى الذي يتشابه إلى حد ما مع ميكرفون المطار، توجهت إلى الشباك الذي وضعوا عليه رقمي وقدمت للموظف الذي بدا أنيقا من خلف زجاج شفاف بياناتى ورغبتي في الكشف ونوعه والمراد من زيارتي لهم!
أخبرنى الشاب أن الطبيب موعده في الثانية عشرة ظهرا وأن رقمى في الكشف اثنا عشر وعلى الفور توجهت إلى العيادة رقم 12 انتظارا لوصول الساعة منتصف النهار ومن بعدها انتظارا للرقم الذي حددته آلة حجز الأرقام بالثاني عشر، كان جمع من الناس قد وصلوا المكان قبلي بالتأكيد.
ونحن جلوس على مقاعد غير وثيرة، صنعت من الحديد أو الألمونيوم أو شيء من تلك الأشياء التي يصنعها الصينيون ويغرقون بها البلاد، على اعتبار أننا أصبحنا شعبا صيني الهوى والمأكل والملبس، وكان الجلوس جميعهم يراقبون عقارب الساعة حتى وصلت إلى الموعد المحدد.
وصلت عقارب الساعة إلى الثانية عشرة ولم يصل الطبيب المحددة له العيادة رقم 12، ومع مرور الوقت بدأت الناس تمارس نوعا من الرفض الصامت والرفض الصامت في بلادنا له حكايات كأن ترى الشخص جاحظ العينين أو عاقد الجبين وقد تراه وهو يضرب بهاتفه على الأرض فإن سألته لن يذكر السبب.
المهم أن المستشفى الذي كنا فيه وهو مستشفى النيل بدراوي سابقا وأصبح الآن ضمن مجموعة مستشفيات كليوباترا، وهي سلسلة متمددة في طول البلاد وعرضها، عندما كانت النيل بدراوي وفي بدايات عملها شهد لها الجميع بأدائها الناجح ثم مع مرور الأيام حدث لها ما يحدث لكل المشروعات الناجحة.. تأخرت وتقهقرت وأصبحت في عداد المرحومين موتا وتراجعا وخيبة.
المهم أن الإدارة حاولت أكثر من مرة حتى جاءتها الفرصة للبيع فباعت مبانيها لمجموعة كليوباترا كما باعت نفسها قديما لإدارة فاشلة.. وبالطبع تغير الديكور وتغيرت واجهة المستشفى ويبدو أنهم غيروا الموظفين أيضا.. غيروا أشياء كثيرة جدا ولكن ربما لم يغيروا الفكرة.
المهم أن الساعة وصلت الآن إلى الواحدة إلا الثلث وموعد الدكتور من المفترض كان في الثانية عشرة، ومع تزايد ضجر الناس وخروج الصمت إلى همهمات ومن الهمهمات إلى ماهو أبعد من الاحتجاج الصامت.. تحركت صوب شاب يبدو من مكتبه المفتوح على قسم العيادات أنه ذا شأن بينهم.
وسألته: هل اعتذر الدكتور فلان عن الحضور؟ قال: لا لم يعتذر كلها شوية كدة وييجي يا فندم، ولأنني لا أعرف بأي مقياس يمكننا تحديد قدر وقيمة الـ "شوية" قلت له: أليس موعده في الثانية عشرة.. قال: نعم.. قلت وكم الساعة الآن: لم يرد.
قلت للشاب: أنا شخصيا لا أتعامل في حياتى مع من لا يحترمون مواعيدهم فأنا لا أتعامل مع سباك غير منضبط أو نجار لا يحترم مواعيده.. وقبل أن أكمل فكرتى قال لى الرجل: هل تشبه الدكتور بالسباك؟ قلت: بالعكس السباك المنضبط في مواعيده وعمله أفضل منك ومنى ومن الدكتور الذي ننتظره بعد موعده بقرابة الساعة.
تصورت أن الأمر انتهى إلا أن الموظف المدير ظل عنصريا في تصوراته عن السباك أو النجار أو المعلم أو الصحفى وظل يوجه لي الكلام متوهما أنه أمسك علي ملفا حساسا وأنا في كل مرة أسأله: هل ترى في نفسك أنك أفضل من الحداد أو السباك أو النجار؟
المهم أني قررت عدم انتظار طبيب لا يحترم مواعيد مرضاه حتى لو كان لوزعيا وحاصلا على نوبل، ففي الدول المتخلفة والتي يطلقون عليها نامية ينظر إلى الناس حسب وظائفهم، فالقاضي والضابط والدكتور والصحفي والمهندس آلهة لا يمكن مقارنتهم بالفلاح والعامل والصنايعي، وفي الدول التي يحكمها قانون المقامات يظل كل شيء فيها بلا مواعيد محددة، حتى لو أصبح مستشفى في سلسلة كليوباترا الضخمة.