أول مرة على جبل عرفات
في موسم حج عام 1994، كانت المرة الأولي التي يرزقني الله سبحانه وتعالي بزيارة الكعبة المشرفة وأداء فريضة الحج.. كان، ركن الحج الأعظم، يوم عرفة في شهر يونيو على ما أذكر، وكانت درجة الحرارة تجاوز الخمسين درجة مئوية، فى الشمس وفى الضل وفي التكييف وفى كل حته، ونسبة الرطوبة كانت متجاوزة 100% !
المهم.. مرت ساعات الوقوف بعرفات وسط اجواء إيمانية رائعة، أدينا صلاة الظهر والعصر جمعا وقصرا، ودعونا بالقدر الذى سهله لنا المولي عز وجل.. وعندما إقترب موعد أذان المغرب حيث تبدأ نفرة الحجيج من عرفات للتوجه إلى مزدلفة، فاجئني الأخ والصديق وليد رشدي، رفيقي في الرحلة، قائلا: إيه رأيك ماتيجي ننزل من عرفات مشي؟
قلت متعجبا: مشي يعني إيه ؟
قال وليد: مشي.. يعني مشي.. هنمشي علي رجلينا من هنا من عرفات، ونروح لحد مزدلفة، نصلي المغرب والعشاء جمع تأخير، ونلم الجمرات، وبعد ما نرتاح نبقي نكمل لحد مني مشي، نرجم رجمة العقبة الكبري، ونحلق أو نقصر، وبعدين نطلع على الحرم الشريف نعمل طواف الإفاضة، ونبقي حجينا والحمد لله.
حينها لم أكن قد أدركت الاتجاهات جيدا، ولم أكن أدرك موقع عرفات من مزدلفة ومنى ومكة المكرمة. قلت لوليد: طب وانته عارف الطريق لمزدلفة ومني ومكة؟
رد وليد بثقة شديدة: لأ طبعا مش عارف.. ما أنا أول مرة اجى زيك، بس إحنا هانمشي ورا الناس، ده الناس اللى بتمشي على رجليها أكتر من اللى يركبوا أتوبيسات!
الحقيقة انتابني شعور بالقلق، ولكن إقتناع وليد بالأمر جعلني اتجاوز مشاعر القلق، ووافقته، وبدأنا نستعد لرحلة استكمال شعائر الحج سيرا على الأقدام، سلمنا حقائب اليد التى كانت معنا لزملائنا بالرحلة، واحتفظ كل منا بجواز سفره وكمية قليلة من النقود.
رحلة لا تنسي
وقبيل لحظات من رفع أذان المغرب، وبينما كنا نهم بالخروج من المعسكر الذي قضينا فيه اليوم، كان الحجاج يجلسون فى السيارات المتراصة إنتظارا للإنطلاق إلى مزدلفة، فاجئنا أحد زملائنا من إحدي السيارات، قائلا: أنتوا راحين فين منك له؟
قال وليد: إحنا هناخدها مشي؟
رد الرجل ساخرا: مشي أيه يابني أنته وهو إنتوا جرى فى مخكوا حاجة؟
فسارع وليد بالرد وقال: إحنا عاوزين نبذل جهد أكبر وعاوزين ربنا يجازينا أكتر.
حينئذ تعمد وليد إبعادي عن الدخول فى المناقشة، فقد كان يستشعر إن قناعتي ليست كاملة، بحكاية السير على الأقدام، وجذبني من يدي، بعد ان أنهي المناقشة مع الزملاء بسرعة، وانطلقنا نحو مسجد نمرة أخر حدود عرفات حيث توجد البوابات التى يخرج منها الحجيج إلى مزدلفة.
اكتشفنا أن هناك أربعة طرق عريضة جدا مخصصة للمشاة، بينما الطرق التى كانت مخصصة للسيارات أقل بكثير، إضافة إلى أن العدد الكبير في أعداد الأتوبيسات التى تقل الحجاج، حول عرفات إلى ساحة إنتظار كبيرة جدا للسيارات، وكانت رائحة عادم السيارات تخيم على الماكن بشكل خانق.
المهم.. إكتشفنا بين المترجلين أناس من كل الجنسيات، والبلدان، وكم كانت سخريتنا من أنفسنا عندما شاهدنا بين الحجيج المترجلين، زوجين تجاوزا الثمانين من العمر يتأبطان ذراعيهما ويسيران بشكل أقرب للانكفاء على الأرض فقد كانت امارات الكهولة تبدو عليهما بشدة، ورأينا شابا يحمل والدته على كتفيه ويسير بها بين المترجلين.
أما الشيئ الطريف المثير، فكان هو الأصوات العالية للحجاج المصريين التي لم تغب عن أي منطقة مررنا بها طوال الرحلة التي امتدت لأكثر من ثمان ساعات، تخللتها عدة استراحات فى مزدلفة ومنى.
فاتني أن أشير إلى إننا، وليد وأنا، عندما بدأنا الرحلة كنا فى حالة بدنية معقولة، ولكن ومع تتابع السير الذى قطعنا خلاله أكثر من عشرين كيلو متر سيرا على الأقدام تمكن منا التعب والإرهاق بشكل كبير جدا.
المهم وصلنا محيط الحرم المكي، وبصعوبة بالغة قمنا بالطواف حول الكعبة الشريفة، ثم قمنا بالسعي بين الصفا والمروة، ورغم التعب الشديد إلا أن الشعور بلذة هذه الرحلة لا يزال قائما فى نفسي حينها.
ونحن نتأهب لمغادرة الكعبة عائدين للسكن قال لي صديق ورفيقي فى الرحلة وليد رشدي: خللي بالك الرحلة دي مش هاتتنسي طول العمر، وهى النبؤة التى تحققت بالفعل خلال مرات عديدة تالية أتاح لي المولي سبحانه وتعالي زيارة البيت الحرام والوقوف بعرفات.