سمعت الله في عرفات
قبل ما يقرب من ثلاثين عاما، وبينما كنت بين ضيوف الرحمن على جبل عرفات، أرجو وأسعي إلى نيل غفران ورحمة المولي عز وجل، ضللت الطريق إلى مكان الإقامة وباتت شوارع عرفات نسخا مكررة، مليئة بالناس بشكل لافت، اكتشفت كذلك أن المعالم المميزة للشوارع في صعيد عرفات نسخة مكررة أيضا..
فكل شارع توجد به مجموعات من دورات المياه، وكذلك مجموعات متكررة من أعمدة الإنارة، وباتت الشوارع مختلفة تماما عما كانت عليه قبل أقل من ساعة تقريبا عندما خرجت من محل إقامتي، وفشلت لمدة قاربت الساعتين من العودة إلى حيث كنت، وشيئا فشيئا استبدت بي الهواجس.
عندما غادرت مكان الإقامة، بعد وقت العصر بلحظات، لم أحمل معي نقود أو مستندات شخصية، كنت حريصا على زيارة أحد الأصدقاء وزوجته المريضة، وكان صديقي قد أوصاني بأن اتابعه قدر المستطاع في الأماكن المقدسة، فربما تتطور الحالة الصحية لزوجته المريضة بعدة أمراض عضال وتحتاج أي رعاية طبية عاجلة.
كانت الزيارة في مقر إقامة صديقي وزوجته بصعيد عرفات هي الثالثة على التوالي، فقد وفيت بوعدي وقمت بزيارته بمحل سكنه بالمدينة المنورة، وكررت ذات الأمر في مكة المكرمة، وكانت الحالة المرضية لزوجته مستقرة ومطمئنة، بل بدت وإنها قد استردت عافيتها كاملة، وكنت أحتفظ بعناوين إقامة صديقي وزوجته في المشاعر المقدسة ومدد الإقامة في كل منها.
وليلة الصعود إلى عرفات غادرت مكة مع مرافقي قبل الفجر ووصلنا مكان الإقامة بينما كان الظلام لا يزال يغيم على المكان وشيئا فشيئا سطعت الشمس، وزادت حدة درجة حرارة الطقس وكذلك نسبة الرطوبة، تصادف أن توافق الوقوف بعرفة مع شهر يونيو في ذلك العام، وأظن أن درجة الحرارة تجاوزت الخمسين درجة مئوية.
بعدما أدينا صلاتي الظهر والعصر جمعا وقصرا، في أوان الظهر، وكررنا الدعوات والابتهال إلى المولي جلا وعلا أن يهبنا الرحمة والمغفرة وأن يتقبلنا، غلبني النعاس ولم أشعر بنفسي إلا ومجموعة من الأصدقاء يلقون بكميات كبيرة المياه المثلجة على رأسي ووجهي..
وأخبرني أحد الأصدقاء وكان طبيبا متخصصا في الأمراض الباطنة، إنه اكتشف إصابتي بما قال انه "ضربة ضل" أثناء نومي وهي حالة مرضية أصعب من ضربة الشمس، وزاد صديقي من التفسيرات والملاحظات بما اصابني، وأوصي بضرورة تناول عدة أكواب من محلول معالجة الجفاف، وأية أطعمة ولو بسيطة غنية بالأملاح.
لحظات مرت، شعرت بتحسن كبير وبإني استرديت كامل عافيتي ولياقتي الصحية.. وتذكرت صديقي وزجته المريضة وبإني لابد أعودهما حيث يقيمان بأحد الخيام التابعة لشركات السياحة المصرية، حيث كانا يؤديان الفريضة، والتي علمت بعد السؤال أن المكان الذي يتواجدان فيه لا يبعد كثيرا عن المكان الذي نقيم به.
نظرت للشارع، فشجعتني حالة الهدوء الشديد التي كانت تسيطر على صعيد غرفات على الخروج من مكان اقامتي قاصدا مكان إقامة صديقي وزوجته، وبسهولة شديدة وصلت المكان، وأسعدني استقرار الحالة الصحية لزوجة صديقي، ووجدتها تجلس على مقعد وسط المكان وتمسك مصحفا بيدها وواعية لكل ما يدور حولها، وسبحان الله وكإنها لا تعاني اية عوارض مرضية.
غادرت المكان سعيدا مستبشرا، ولكني وبمجرد أن ابتعدت عن المكان بعدة مئات من الأمتار، اكتشفت المأزق الذى وقعت فيه، فقد اقترب الوقت من حلول موعد أذان المغرب، وامتلأت الشوارع بالحجاج استعدادا للنفرة من عرفات والتوجه الى مزدلفة لإكمال باقي مراسم فريضة الحج، وتبددت أمامي اية معالم للشوارع في صعيد عرفات.
استبد التوتر، وأنا وسط طوفان من البشر، لا أحمل هوية ولا احتفظ بنقود ولا شيىء معي سوي ملابس الإحرام، المجردة من أية جيوب.. استبد بي الخوف وساورتني هواجس مخيفة، وبدأت احادث نفسي وأقول: ماذا لو مت الأن؟ لا يعرفك أحد.. أنت لا تحمل أي مستندات شخصية، ولا تحمل أي شيئ يعينك، وعلى ما يبدو أن الشيطان قد استبد بي في تلك اللحظة، وظلت مخاوفي تتزايد إلى الحد الذي كنت أشعر معه بالاختناق وبأني في مكان ضيق، رغم اتساع المكان وإمتلاءه بالبشر.
وفجاة.. سري بداخلي شعور عميق بالثقة وتبددت كل مخاوفي، بعدما هيأ لي أني استمعت إلى صوت بداخلي وكأنه يحدثني، قال الصوت: أنت لا تحتاج لأية هوية كي يعرفك الله.. مهما حدث لك فأنت في ضيافة الرحمن، أنت من المقبولين، ولا تحمل هم من حولك فكلهم مثلك لا حول ولهم ولا قوة.
وفجأة.. وجدت باص يسير أمامي وكان يحمل زملائي وأصدقائي رفقاء الرحلة، جذبوني إلى داخل الباص، وظللت سارحا بعد أن من الله على بصعيد عرفات.
