الأفورة
لم أجد لفظا معبرا عن شاشة ودراما رمضان أكثر من الأفورة، بما يعني ضحالة النصوص وكاتبيها وسماجة مقدمات برامج النميمة، وسخفهن وتنطع رامز وضيوفه وقبولهم بيع كل كرامتهم على الملأ نظير بعض دراهم، وتفاهة الإعلانات، وسذاجة نصوص المسلسلات واعتمادها على النقل والمط والتكرار، واستنزاف سيرة البطل الشعبي بقدر من العبط وثقل دم لا مثيل لها من بعض من سعوا للتمثيل بفلوسهم أو بفلوس أزواجهم..
وبالمناسبة جاء على مصر حين ظهرت دابة الشاشة بحوارات سمجة بفلوس مجهولة لا عدد لها، وبإعلانات بالملايين في مشهد أقرب إلى غسيل أموال، وربما سمعة، ومعظمهن همزات لمازات يؤدين أدوارا قبيحة من أكل لحوم الميتة، وأخرى مليونيرة من زواجها وطلاقها تعتبر نفسها إضافة لأي رجل وهي شديدة الوطأ، وهي الوحيدة في العالم التي تمثل برموشها وقيل (بالبربشة)..
وكانت السمة الغالبة في الحوارات والمسلسلات والإعلانات هي الأفورة والمبالغة التي تصل إلي حد السذاجة، فواحدة مثالية إلى درجة الهبل، وأخرى ترى التمثيل في إعوجاج مخارج الألفاظ، وثالثة دمرت عملا كبيرا وهي تقوم بدور بنت البلد بقدر كبير من الرزالة..
وهكذا بعد أن كنا ملوك الدراما بدءا من نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس والسباعي وأسامة انور عكاشة ومحفوظ عبد الرحمن ووحيد حامد ومحمد عبد القوي، فبعد أن كانت الدراما المصرية سفيرا فوق العادة جامعة لكل العرب ورائدة للفن العربى، يضرب بها الأمثال ويحذو نهجها القائمين على الفن في البلدان العربية، فكانت مقصدا وقبلة دائما لهم للترويج للفن في بلدانهم، إلا أنه سرعان ما تبدل الأمر..
فتحولت دراما العصر الذهبى إلى مجرد ذكريات نحن نشتاق إليها كلما شاهدنا عرضا لاحد أعمالها النادرة، وأصبح الواقع المرير الذى فرضته علينا ظروف لا طاقة لنا بها، هو الأمر الذى لابد أن نتقبله، لحدوث خلل تام فى منظومة الفن، إضافة لبرامج تقتات على مشاكل الناس.. وتخترق أسرار البيوت وتنبش فيها، وهذا أبعد ما يكون عن الإعلام..
تلك البرامج الفضائحية تنهش الأعراض بهدف التسول والترند، وعلي العكس تبدو الإعلانات أكثر تعبيرًا عن الواقع المصري أكثر من أى مسلسل، مهما بلغ من محاولات من المؤلف والسيناريست والممثل في كل عمل درامي!
فالإعلانات قدمت -وإن كان دون قصد- صورة حقيقية لواقع المجتمع المصري بكل تناقضاته الصارخة، إعلانات عن مشروعات شواطئ وكمباوندات وأماكن ترفيهية، بعدها مباشرة إعلانات تستحثك للتبرع من أجل جمع ثلاثة آلاف من أجل توصيلة ماسورة ماء لأسرة فقيرة في مجاهل البلاد المصرية!
والصورة الأكثر واقعية تراها في الخلفيات، هى سيطرة كبار رجال الأعمال على عالم التمثيل، حيث تبدو العلاقات وثيقة جدا جدا بين أصحاب المليارات من مالكى الشركات وبين نجوم الدراما. والنجم يظهر بشخصيته الحقيقية وليس مؤديًا لدور يجسد فيه شخصية في مسلسل، ويصبح المشاهد في حيرة بين الواقع والدراما.. نفس الممثل يظهر في الفاصل يكيل المدح لعبقرية إحدي شركات المقاولات..
وتضيع الخطوط الفاصلة بين أرض الواقع وخيالات الدراما التي فقدت قدرتها علي لم شمل الأسرة، حيث كانت المسلسلات تفرض حظر التجول أثناء عرض الروائع الدرامية، كانت الهرم الشامخ الذى استطاع خلال ربع قرن من الزمان أن يعيد المجد والهوية للدراما المصرية، حتي ظهرت ورش الكتابة وتفصيل النصوص للنجوم ومداعبة الترند بالافورة واللا منطق، فأنتجت نصوص لا تشبه الناس ولاتعبر عن همومهم.
وبدلا من أن تترك تأثير جيد للمتلقي على العكس تركت تأثيرًا سلبيًا على رغم تحقيقها نسبة مشاهدة عالية. وخذ نموذج نعمة الافوكاتو فمي عمر في أفضل حالاتها خاصة في رسم الشخصية من حيث اللبس وطريقة الكلام، والمسلسل فيه خلطة البطل الشعبي التي يتفاعل معها الجمهور في كل موسم، ولكن السخاء في اللامنطق والإيفيهات وفرض العضلات أخد المسلسل للافورة الهندية، وبدا كمسلسل في مستوى ذكاء الرضيع، وسرعان ما إنهارت القصة من المثاليات والممكن إلى كم من الهبل والهطل والتراجيديا الضحلة.