طعم الوطن
يعارك العم محمد الحياة كل صباح من أجل ورقة بمئتي جنيه يحصل عليها آخر النهار، من عمله الشاق في حمل قوالب الطوب وقصعة المونى. تارة تحرقه شمس أغسطس وأخرى تغرقه أمطار يناير وفي ثالثه تطيره رياح الخماسين التي رغم قسوتها تذكره بأكثر شيء يمنحه المتعة في هذه الحياة.. خمسينة شاي تقيل سكر سريقوسي.
لا ينفق العم محمد مليما على نفسه خارج البيت، فلا يشتري طعاما مكتفيا بوجبة إفطار متينة تعدها زوجته، ولا يستقل ميكروباصا إذ يترجل حتى البيت من أي مكان توصله إليه السيارة الربع نقل التي خصصها المقاول لنقل العمال.
في الصيف تتوق نفس عم محمد إلى زجاجة حاجة ساقعة، فيخمد تلك الشهوة بتذكير نفسه بفستان تنتظره الابنة الصغرى، وفي الشتاء يجري ريقه على كوز ذرة مشوي فيتمتم «طب وفلوس درس الواد يا محمد؟!».
رغم كل ذلك، يمضي عم محمد راضيا في طريقه راضيا حامدا الله، وحين يصل البيت يخرج ورقة المئتي جنيه يعطيها لزوجته فتدسها صدرها، وتسرع إلى المطبخ فتحضر ما تيسر من طعام مصحوب بخمسينة شاي سوداء معتبرة كثير سكرها.
الفقر ومرارة الغربة
يأكل الرجل ويحمد خالقه، ويجلس إلى جوار زوجته خلف نافذة صغيرة تطل على شارع في حارة مزنوقة، فيتسامرا وهما يتبادلان أخبار الأهل والجيران وما فعل الولد وماذا قالت البنت.. يستمع عم محمد إلى حديث زوجته، وهو يمزمز رشفات الشاي السحري، الذي ينسيه عناء اليوم وغلظة المقاول وعناء الطريق.
وقبل ثلاثة أشهر، عاد عم محمد إلى البيت، ليتكرر السيناريو الذي لا يمله.. غير أن شيئا غير مألوف حدث.. بل لنقل إن شيئا من الأشياء المألوفة لم يحدث، وهذا حدث عظيم لو تعلمون، فحياة الرجل على رتابتها ومللها لا تؤلمه بقدر ما يوجعه ذاك الأمر الذي وقع.
تناول الرجل طعامه وحمد ربه، ثم لم تأت زوجته بكوباية الشاي المعتادة.. خير، ماذا حدث؟ هكذا سأل الرجل، وأجابت الزوجة: مفيش سكر.
تعجب الرجل، وصاح غاضبا يسأل المرأة عن السبب، فلما أخبرته بان أي من الدكاكين والمحال القريبة لم يعطها ولو ربع كيلو سكر، استنكر عدم ذهابها إلى واحدة من الجيران تسألها ولو تلقيمة، فأقسمت له أنها فعلت، غير أن كل البيت خلي من السكر.
ثلاثة أشهر وعم محمد يبحث عن السكر، وحين وجده في دكانة منزوية بإحدى الحارات، صعق لما أخبره البائع الثمن.. «65 جنيه للكيلو، ومتقولش لحد إنك جبته من عندي».. استحرم عم محمد أن يدفع أكثر من ربع اليومية في كيلو السكر، وقال في نفسه: «محبككتش يعني نحلي بعد الغداء».
قالها ورحل، وحين وصل إلى بيته، جلس إلى جوار زوجته يتحدثان وعندما ذكرته المرأة بأنه قد فرط في فرصة السفر قبل أكثر من خمسة عشر سنة، تذكر كلماته لها بأن الفقر المعجون بحلاوة الوطن أفضل من الغنى الممزوج بمرارة الغربة.