ساخرون، حكاوي زمان.. أحمد بهجت يروى ذكريات الليلة الأولى من رمضان
لكل منا ذكريات جميلة مع شهر رمضان المبارك يتذكرها الإنسان فى شريط طويل يشمل كل شيء فى الحياة كلما جاء رمضان، وهناك من الأدباء من دون مذكراته عن شهر رمضان منذ بدأ مراحل عمره، وهناك من عكسها من خلال أحداث رواياته مثلما فعل نجيب محفوظ فى الثلاثية، وفعل إحسان عبد القدوس فى روايته “فى بيتنا رجل”، وأحمد بهجت فى كتابه «مذكرات صائم» ويحيى حقى فى “قنديل أم هاشم”.
وفى مؤلفه «مذكرات صائم» يحكى الكاتب الصحفى أحمد بهجت عن ذكرياته فى رمضان فى مختلف مراحل عمره، فعن اليوم الأول من رمضان كتب يقول:
جاء شهر رمضان أعظم وأجمل شهور العام، وقد استيقظت الحارة التى أسكن فيها.. أشعر فى الليلة الأولى من شهر رمضان أننى أرى من خلال النفس كل نفوس الآخرين، أحس نحو الكائنات كلها بالحب، وأشعر بالرفق والضعف إزاء قصص الحب الإنسانية والحيوانية والنباتية.
وأضاف بهجت: استيقظت مبكرا والأبناء نائمون بعد سهر السحور، ارتديت ملابسى وأخذت مسبحتى فى يدى، ركبت الترام وكان مزدحما كعادته، الركاب صائمون والكمسارى صائم، ولا أحد يدخن، وصلت المصلحة، مكتبى فى حجرة بها ستة مكاتب، وأنا رئيس الحجرة..
معنا شاب فى الثلاثين لا يصوم، ومعنا زميل مسيحى جاملنا ورفض أن يدخن أو يشرب الشاى، وفجأة قال له زميل ثالث: دخن يا إسحاق أفندى خلى البهوات تشم الدخان وتسلى صيامها.. استغربت من شباب هذه الأيام، إن الأدب الذى تعلمه جيلنا ليس له وجود، عكفت على الملفات أمامى، وحاولت التركيز فلم أستطع، إنها السجائر اللعينة، ودخان السجائر يتصاعد إلى الغرفة من زملائنا المفطرين..
وأكواب الشاى تلف على المكاتب وسط حرماننا المتوحش، خاصة وقد بدأ ألم الرأس، وأحسست أننى سأموت من العطش، فقررت أن أصبر، حتى جاء ميعاد الانصراف فعدت إلى بيتى، ولم أكد أفتح باب منزلى حتى استقبلتنى سحابة ضبابية من روائح الشواء والمسلوق والمحمر والمشمر والحلوى، مسحت شفتيَّ الصائمتين وابتسمت، حاولت النوم كما تعودت ظهرا دون جدوى، عموما نحن في إنتظار مدفع الإفطار، يا مهون يا رب.
إنطلق المدفع وبدأت العمليات العسكرية، مددت يدى إلى ثلاث بلحات جافة تضعها زوجتى على المائدة، تعودت أن أفطر على البلح عملا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تذكرت أفضل خلق الله كيف كان يصوم ويفطر، شهر رمضان عند المسلمين الأولين كان شهرا نزل فيه القرآن، وكان شهرا يتخفف فيه البدن من البدانة، وتلتقى فيه الرحمة بالإخلاص والجوع بالحب، وكان شهرا تعاود فيه الروح اتصالها بخالق الروح.
انتهيت من الطعام وأحسست بوخم شديد ورغبة فى النوم، فلم أكد أدخل غرفة النوم حتى دخلت زوجتى الغرفة ومعها طبق من الكنافة والقطايف، وما أدراك ما الكنافة والقطايف، كان لا يوجد فى عهود الإسلام الأولى لا كنافة ولا قطايف، كان رسول الله إذا شبع استغفر الله لأن في المسلمين جائعا لم يشبع.
دخلت الكنافة والقطايف تاريخ المسلمين حين خرج الحب من القلوب، وصار الإسلام سبحة معطلة وفانوسا أثريا وكلمات تتمتم بها الشفاه، اتكأت على فراشى ورحت أدخن، أبنائى يجلسون حول جهاز الراديو، ومن بعده التليفزيون ساعة الافتتاح وهات يا دوشة، فجأة سألنى ابنى الأصغر: لماذا نصوم؟ قلت: علشان الأغنياء تحس بجوع الفقراء..
فقال ولماذا يصوم الفقراء؟ قلت له: إن الصوم فى حقيقته هو نوع من الحب، هو العبادة الوحيدة التى لا تظهر على صاحبها التى بين العبد وربه، وجاء زمن الصيام الذى نصوم فيه لنسهل عملية ابتلاع الكنافة والقطايف. ويأتى السحور على دقات طبلة عم حنفى العربى المسحراتى وهو يقول “اصحى يا نايم وحد الدايم”، ومع أطباق الفول المدمس وكوب الشاى ينتهى سحور الليلة الأولى من شهر رمضان بمدفع الإمساك.