بالمؤمنين رؤوف رحيم (8)
إنه الرحمة المهداة، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.. عن بشير بن عقربة قال: لما قتل أبي عقربة يوم أُحد أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكي، فقال: يا حبيب! ما يبكيك؟ أما ترضى أن أكون أنا أباك وعائشة أمك؟ قلت: بلى يا رسول الله بأبي أنت وأمي!
فمسح على رأسي فكان أثر يده من رأسي أسود وسائره أبيض، وكانت لي رتة (أي اضطراب كلام حركي) فتفل فيها فانحلت، وقال لي: ما اسمك؟ قلت: بحير، قال: بل أنت بشير.. ثم تأمل قصة الجمل الذي بكى واشتكى للنبي ما يلاقيه من تعب وجوع!
قصة الجمل الذي بكى واشتكى للنبي
روى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، قال: أردفني رسول الله خلفه ذات يوم فدخل حائطًا، حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله فمسح ذفراه، قائلا: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟" فجاء فتًى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسول الله. فقال: "أَفَلا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؟! فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ فسكن.
ومثل هذا الجمل الذي بكى أمام النبي واشتكى له، فقد سجد له بعيرٌ آخر هائجٌ لم يقدر عليه صاحبه.. يروي ذلك أنس بن مالكٍ، فيقول: كان أهل بيتٍ من الأنصار لهم جملٌ يَسْنُونَ عَلَيْهِ، وإنَّ الجمل اسْتُصْعِبَ عليهم فمنعهم ظَهْرَهُ، وَإِنَّ الأنصار جاءوا إلى رسول الله، فقالوا: إنَّه كان لنا جملٌ نُسْنِي عليه وَإِنَّهُ اسْتُصْعِبَ علينا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ، وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ..
فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وصحبه، لأصحابه: "قُومُوا"، فقاموا، فدخل الحائطَ والجمل في ناحيةٍ، فمشى النَّبيُّ نحوه، فقالت الأنصار: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ، (أي الكلب المسعور)، وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ، فَقَالَ: "لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ".
فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ بَهِيمَةٌ لا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ، وَنَحْنُ نَعْقِلُ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ. فَقَالَ: "لا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ.….".
جذع شجرة يحن إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم
أما حكاية الجذع، فكلنا يعرفها.. فقد كان يوم الجمعة ومر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بجانب الجذع الذي كان يستند عليه أثناء الخطبة، وتجاوز الجذع وصعد المنبر الجديد وألقى السلام على الناس وأذن المؤذن.
ثم بدأ في خطبته وفي أثناء الخطبة سمع الصحابة، رضوان الله عليهم، أنينًا يشبه أنين الطفل الذي فقد أمه، وابتدأ صوت الأنين يرتفع، وأصبح الصحابة يلتفتون يمينًا ويسارًا ليروا من أين يأتي هذا الأنين.. وإذا بالأنين يصدر من الجذع الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب عنده من قبل المنبر.
وظل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يخطب وأنين الجذع يزداد، وهو يبكي على فراق رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ليس فراقًا يصل إلى بعد في الزمان ولا المكان، ولكن ثماني خطوات فقط بين الجذع وبين المنبر.
وظل صوت أنين الجذع يعلو ويعلو، حتى لم يعد الصحابة يسمعون صوت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يخطب، فأوقف النبي خطبته ونزل من على المنبر وأقبل على الجذع.
وأخذ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يربت على الجذع، ويمسح بيده الشريفة عليه، كما تفعل الأم مع طفلها الذي يبكي، حتى أخذ الجذع يهدأ شيئًا فشيئا، حتى سكت، وضمه إليه وخاطبه، وخيره بين أن يكون شجرة مثمرة في الدنيا لا تفنى حتى قيام الساعة، وبين أن يكون معه في الجنة، فاختار الجذع أن يكون يكون مع النبي في الجنة، وقال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لأصحابه: "لو لم أحتضنه لحنَ إلى يوم القيامة".
وكان الحسن البصري، رحمه الله، إذا حدث بحديث حنين الجذع، يقول: “يا معشر المسلمين؛ الخشبة تحن إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، شوقًا إليه، أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه؟”.