الطمى والخرافة.. وحوار لم يكتمل!
عثر على في رحابه وأعادني إلى أيام مضت برقه.. فتشت في الذاكرة المثقوبة فوجدته ضمن الجالسين بلا مغادرة.. أقصد في البداية الصديق والزميل شريف قنديل، الذي أدين له باستعادة أيام مضت وما زالت محفورة رغم وهن الذاكرة.. جعلني أستعيد بعضا من أيام وساعات قضيتها مع الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر..
ليس في رحاب القاهرة التي جمعتني به كثيرا ولا بين جدران أتيليه القاهرة، أو في المقاهي المحيطة.. ولكن هناك في قلب الصحراء المصرية.. أقصد الوادى الجديد.. بعيدا عن المنوفية التى تجعلنى أفخر بالانتماء اليها مع شاعرنا الكبير، رغم أننى لفترة طويلة كنت أظنه من أبناء كفر الشيخ لارتباطه في الستينيات بالحركة الأدبية هناك.
في البداية كان الاقتراب من عالمه يعني الغرق في محيط من الانسانية والشعر والسياسة والإبداع.. صوفية بلا تكلف في معناها الإنساني والإبداعي.. تراه زاهدا في الحياة وراهبا في محراب الوطن والشعر واللغة والإنسان..
كان الطمي هو ملك الحوار الأخير مع الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر.. والسبب كان وجودنا في الوادى الجديد في أوخر عام 2009، حيث ملتقى الفخار الذى اقامته هيئة قصور الثقافة هناك، والفخار فن عماده الطمى، تشكله أنامل ووجدان الفنان عبر العصور منذ فجر التاريخ الذى ولد في مصر على ضفاف النيل.
قلت في احدى الجلسات استاذ عفيفى.. بعيدا عن الشعر وهمومه.. ماذا عن حوار الطمى الذي يخاصم الليونة واللون حين يحتضن النار وانت تقول: تركت علاماتي في الارض بعد دم على الطرقات.. وعشت بقريتي خمسا وعشرينا أذوق الموتى.. أشتعل.
كانت هذه البداية الحوار الذى بدأته عن سبب تركه القاهرة فى أواخر حياته واستقراره في قريته رملة لانجب في محافظة المنوفية.. لماذا؟ ترى هل هو موقف من المدينة أم كفر بأهلها؟ لم أنتظر أجابته وتلاحقت الجمل على لساني.. وقلت وهل العودة للجذور والأرض حنين للأصل أم غضبا وخصاما لقاهره المعز وأهلها؟!
ما زلت أذكر ابتسامته وهو يقول رجوعي ليس عودة للأرض لكن استمرارا ووصلا بعد قطيعة سببها البعد عن الغرس والأرض والزرع، أنا أحب الفلاحة والزراعة وتربية الحيوان وتربية النحل إلى آخره من أمور في عالم الفلاحين الذي يربطني بالحياة.
قلت ولماذا يكون الفرار الآن؟
قال: أخلاقي وقيمي ومثلي تجعلني أحاول أن يكون طعامي من عرقي، وأن تكون أيامي مجدية لي ولغيري، وكما قلت ذات يوم وأقول دائما أملي وحلمي أن أزود أرض مصر أرضا خضراء ولو مساحة شبر واحد واترك في اللغة ولو جمله واحدة!
الكفر بالمدينة
قلت: وهل سلوكك كفر بالمدينة وأهلها أم إيمان وحنين للأهل والجذور؟
قال أنا لم إنشا في مدن ولم اعمل فيها، والمدن التي اضطرتني الظروف للعمل فيها مثل بغداد اعتبرها قرية صغيرة.
قلت: لكن القاهرة أمرها مختلف؟
قال نعم هي مدينة مختلفة، وبالنسبة لي مفزعة ولا أستطيع الحياة فيها خصوصا بعد سيادة البلطجة والزحام.
قلت هل تشعر بغربة في عالم الشعر الآن؟
قال: توجد بلطجة في الشعر الآن، وجرأة الجاهل هي السائدة الآن، وإنتقل زحام البلطجة الموجود في مظاهر الحياة المصرية الآن إلى عالم الشعر ليزرع الفوضى المدمرة.. وأكثر الناس هيمنة في مجالات الغنى هم الفنانون التشكيليون.
قلت: التراث الشعبي في مصر معرض للاندثار؟
قال نعم بسبب أدوات الاتصال الحديثة مثل التلفزيون ومهرجانات المسرح والغناء والموسيقى إلى آخره، كلها تفتت وتمحو مفردات التراث الشعبي الذي لا يمكن إنقاذه إلا بجهود جبارة من التسجيل والتوثيق والبحث، وتقليب كل ركن من أركان مصر لنعرف دقائق الوجدان الشعبي ولنعرف الشعب الذي نتحدث عنه ويتحدث عنه المثقفون والصفوه دون أن يعرفوه أو يلمسوا له تكوينا ودون أن يذوقوا طعمه.
قلت إذن عن أي شعب يتحدثون؟
قال: يتحدثون عن شعب طالع من الكتب والأوراق وأبحاث الكتب واقتراحات النظريات وتفاسير الأفكار، وتقاسيم الأفكار التي تبقى دائما مغشوشة وغريبة ويفشل في رصدها الواقع أو فهم التقاطع مع حياة البشر في صميمها، وصلتها وفقرها وغناها وآدابها وفنونها لذلك لم تستطع كل النظريات الاجتماعية أن تحفر في أرض مصر ولا في وجدان شعب، تعبيرا أو تنويرا أو طرحا لمقترحات أو تفكيك أنماط العصبيات الثقافية والفكرية التي يتناطح في ساحتها مثقفون وريفيون وتنويريون مجرد أبواق وأصداء لما يقرأون.
قلت أنت شاعر والبعض يعتبرك فنانا تشكيليا ترسم بالكلمات.. كيف تستفيد الفنون من بعضها البعض؟!
قال: الثقافة واحدة والحضارة واحدة والفنون والمسارح يحدث بينها التأثير والتأثر، ومن حظي أنني زرت الكثير من المتاحف والمعارض ومنذ صغري وأنا اقتنى الكتالوجات وتجد لذلك أثر في شعري.
هل هناك علاقة جدلية بينك والغيطان والطمي ومصر؟
قال: لي كما تعرف لي ديوان بعنوان عندما يتحدث الطمي، ومصر دون طمي لا تكون مصر، والطمي أولا ما لمسه الإنسان وأسسه في محاولات تشكيل عالمه، والطمي كان أول استخدامات الإنسان للإبقاء على حياته بعد أن فرغ من صناعة الأسلحة وأدوات الصيد والقتال.. وكان استئناس الحيوان وزرع النبات ورصد الفصول المناخية ومعرفة علاقة الجو والشمس بالنبات.. يعني في كل ذلك كان الطمي هو الأساس.
قلت: كان للخرافة الشعبية مكان بارز في أشعارك.. لماذا؟
قال: عرفت في شعري برصد عدد من الخرافات الشعبية المتصلة بالحياة والموت والخصوبة والعقم.. باختصار أنا مشغول طوال عمري في شعري بالخصوبة والعقم والحياة والموت.
ثم توقف الحوار بوعد جديد على استكماله.. لكنه لم يستكمل!
yousrielsaid@yahoo.com