بين أمي وأبي.. والحمامصى والمجلس 39
هل أمهات اليوم بنفس كفاءة أمهات زمان في تدبير شئون الأسرة؟! هذا السؤال يراودني دائما كلما طاف بذاكرتي شريط الذكريات.. ودائمًا ما أدعو لأمي أشطر وزير مالية عرفته في حياتي؛ فقد كانت تملك قدرة هائلة على التدبير والتوفير ومعاونة أبي رحمه الله ذلك الموظف المكافح الذي كان راتبه بسيطًا كأغلب أهل زمانه..
ورغم ذلك فلم أكن أشعر مطلقا بأي نقص في احتياجات بيتنا، فكل ما نحتاجه من الضروريات موجود بفضل أمى يرحمها الله، التي كانت توفر لي كل ما أحتاجه من طعام وشراب، وتقتطع من قوت أسرتنا حتى تكفيني مؤنة العيش الكريم؛ خصوصًا حين أتممت دراستى الثانوية بالزقازيق وانتقلت للدراسة بجامعة القاهرة.. وظل والداى يتعهداني بالتشجيع والدعم في دراسة الإعلام الذي رغبت فيه حتى تخرجت في الجامعة.
ولا تزال ذاكرتي عامرة بأفضال أستاذي جلال الدين الحمامصي، رحمه الله، الذي تعلمت على يديه فنون الصحافة والمهنية وشرف الرسالة والمصداقية، وغيره من أساتذة كبار أدين لهم بالفضل بما غرسوه فينا من قيم الحب والأمل والعمل والعرق..
وحين تخرجت في العام 1976 تدربت بجريدة الأخبار وقبلها بجريدة صوت الجامعة قبل التخرج وهو ما أكسبنى خبرة صحفية لا بأس بها، أهلتني للعمل بجريدة الجمهورية مع الكاتب الصحفى الراحل الكبير محسن محمد، الذي كان يرفض الواسطة، وقد عرفته منذ كان مديرًا لتحرير الأخبار..
وقد طلب مني الانتقال معه للجمهورية بعد أن جرى تكليفه برئاسة تحريرها ثم قام بتعييني في العام نفسه، وتعلمت على يديه فنون الصحافة وأصولها ومبادئها وكيف تكون المهنية والحفاظ على سرية المصدر والالتزام وعدم الفبركة..
وأشهد أنه أدخل لجريدة الجمهورية مجموعة كبيرة من الشباب استطاع بهم إحداث نقلة نوعية كبيرة ارتفعت بتوزيعها تدريجيًا من 70 ألف نسخة إلى 450 ألف في النصف الأول من عام 1984.. كما اشهد أن للكاتب الصحفي الكبير سمير رجب بصمات واضحة في مؤسسة دار التحرير التي شيد مبناها الفخم ومطبعتها وأحدث طفرة صحفية كبيرة في الجمهورية والمساء وإصدارات دار التحرير كافة.
وفي حياتي المهنية عرفنا تناقل الخبرات بين الأجيال وتعلمنا ممن سبقونا ولم يبخلوا علينا بخبرتهم ونصحهم، ولعلى أفخر بأنني إبن من أبناء جريدة الجمهورية، التي احتضنتني ومنحتني فرصة العمل وتحقيق الذات ولم تبخل على بشيء..
ذكريات وتحديات
حيث عينت فيها فور تخرجي وترقيت من مندوب صحفي في وزارات عديدة إلى رئيس قسم ثم نائبًا لرئيس التحرير ثم نائبًا أول لرئيس التحرير ثم رئيسًا لتحرير كتاب الجمهورية ورئيسًا لمجلس إدارتها إلى أن تقدمت باستقالتي طواعية في فبراير 2011..
وهو ما رفضته بقية القيادات الصحفية وأصرت على البقاء في مواقعها حتى جرت إقالتهم جميعًا بعدها بشهرين اثنين!
كما أفخر بما قدمته من جهد نقابي، لكوني عضوًا منتخبًا بمجلس نقابة الصحفيين وسكرتيرها العام لمدة 8 سنوات وكنت ضمن كتيبة النقابة للدفاع عن حرية الرأي والتعبير ضد القانون المشبوه 93 المعروف بقانون اغتيال الصحافة، حتى جرى إسقاطه على يد مجلس النقابة (39)، وإقرار القانون البديل رقم 96 لسنة 1996 بشأن تنظيم الصحافة، والذي أنهى الحبس في قضايا النشر.
وخلال مسيرة عملي بجريدة الجمهورية لم أبخل بجهدى وكنت واحدًا ممن يوفرون للمؤسسة موارد مالية إلى جانب مهماتي التحريرية.. ولا أنسى قسم 139 جمهورية الذي أنشأه الكاتب الصحفي الكبير سمير رجب وقمت بالإشراف عليه واختيار نحو 100 زميل يشكل بعضهم الآن جانبًا رئيسيًا لفريق العمل بالجريدة..
كنا أسرة واحدة يحب بعضنا بعضًا، ونتعلم ممن سبقونا الذين لم يبخلوا علينا بما عندهم من علم وخبرة، وكانوا يسدون لنا النصح ولا يتسع المقام هنا لذكرهم.
كما لا أنسى ما أصابني في مثل هذه الأيام قبل عام من مرض عابر غامض بلا مقدمات؛ لأجد نفسي بين جنبات المركز الطبي العالمي لأكثر من 45 يومًا مرت بصعوبة شديدة في بدايتها لكنى شيئًا فشيئًا أدركت أن ما أصابني كان لحكمة ومشيئة ربانية اختارت الوقت والبلاء..
كانت المحنة دروسًا وعبرًا أخذتني من حياتي المعتادة التي اعتدنا فيها، شأننا شأن كل البشر، على النعم التي لا نعرف قدرها إلا سُلبت منا.. أدركت أنها منحة ربانية ساقها الله إلىَّ لأبصر حقيقة الدنيا التي مهما طالت فهي إلى زوال..
هي لحظة في عمر الزمن أبصرت حقيقة العلاقات؛ أيها كان حقيقيًا صمد أمام الاختبار وأيها كنا زائفًا سقط في أول اختبار حقيقي..عرفت من ظل معى لا يتوقف عن السؤال عنى مدفوعًا بشعور صادق وقع في قلبي، ومن كنت عابرًا في حياته على غير ما كنت أظن أني إلى نفسه قريب..
اقتربت كثيرًا من الله يملؤني رضا وتسليم بقضائه سبحانه، ترسخت في نفسي قناعة أن دوام الحال من المحال، وأن هناك أيامًا تسكن قلوبنا، ولا تفارق ذاكرتنا أبدًا كتلك التي مرضت فيها.. أيامًا نودعها ونرجو أن ننساها..
ذكريات هائلة.. وتحديات كثيرة.. نجحت بفضل الله في اجتيازها بثبات وصبر ورضا.. وهذا فضل من الله ونعمة تستوجب الشكر.. ويقين بأن الله معك بقدر ما تكون معه.. فهو سبحانه لا يتخلى عمن قصده بإخلاص وصدق.. رحم الله أبى وأمي رحمة واسعة.. وشكرا لكل يدٍ إمتدت لي بالعون والدعم منذ وعيت على الدنيا وحتى يومنا، الذي أدعو الله أن يكون عامنا هذا عام خير وبركة ورخاء وسلام للإنسانية كلها.