اتفضل يا والدي
أتممت منذ أيام، عامي السابع والأربعين وافتتحت العام الثامن على طريق النزول على منحدر العمر السريع من قمة الاربعين، حيث التروي والتريث، والبحث عن السكون في عالم مليء بالصخب العارم.
كعادتى في ارتداء الجلباب داخل شوارع منطقتى، وحين اشتريت بعض الاغراض من أحد المحال وهممت بمحاسبة الكاشير وكانت فتاة عشرينية كما يبدو من ملامحها، باغتتنى بعبارة صادمة وهي تقول لي بنبرة هادئة وصوت خافت: "اتفضل الباقي يا والدي"!، نظرت حولي فلم أجد إلا أنا الوحيد أمامها وفهمت أنى المقصود بهذا النداء الذي ربما صادف عودتي لارتداء نظارتي الطبية من جديد.
بات أبنائي وزوجتي ينادوننى بلقب "يا حاج" رغم أننى لم يسعدنى النصيب بزيارة بيت الله الحرام كى أنال هذا اللقب، وحين يصرخ أحدهم مناديا أياي بهذا، أشعر فى لحظة أن عداد العمر قفز ثلاثين عاما بغتة وانى أجلس في رحاب عامي الثامن والثمانين، "مع توقيري التام لأهلنا الكرام فى هذا العمر"، ولكن هو الشعور القاتل بالوهن من مجرد لفظ عابر فى نظر البعض.
منذ أيام حملني أبنائي إلى المستشفى بعد ارتفاع مفاجئ فى ضغط الدم، ولم يجدوا أمامهم سوى الجلباب كحل سريع جعلونى ارتديه كي نسرع إلى المستشفى في أقل وقت ممكن، وهناك استقبلني طبيب الطوارئ الشاب الذي تبينت من حديثه مع أحد زملائه أنه تخرج عام 2021.
روح الشباب
سألني الطبيب الشاب وأنا ممدد على سرير الطوارئ: "بتشتكى من ايه يا حاج؟"، وحين أخبره اولادى بما حل بي مع الإبلاغ عن احتسائي القهوة بغزارة يوميا، وبخني قائلا لأولادي: "هما الناس الكبيرة دى كده عنيدة ومش بتسمع الكلام وبيتعبونا ويتعبوا أهلهم معاهم".
هل تقصدني انا بهذه العبارة السمجة؟
لم أدر مع وقع توبيخه إلا وتسرب إلى إحساس الثمانين، وهو ما جعلنى لا انتبه إلى غرز الممرضة انبوب المحلول الملحى فى وريدي، كى يبدأ الطبيب العلاج السريع.
أحتاج أحيانا الى نفض غبار تلك المرحلة من العمر، بارتداء الجينز والتيشيرت ونسيان أجواء الجلباب، مع حلاقة شعيرات الذقن التي تشبعت بالبياض، ونسيت أن نفض هذا الغبار لابد أن يبدأ من الداخل أولا باكتساب السكينة والامتناع عن ضجر التفكير، ومقاومة ضغوط الحياة بقليل من المناورة، والابتعاد عن الانفعال مهما كانت درجات الاستفزاز، أو عوامل استثارة الغضب..
فإن ترك الأمور كلها صغيرها وكبيرها بين يدي الله سبحانه وتعالى، يريح العقل والقلب وكامل الجسد وهو ما عاهدت نفسي على الالتزام به مع خطوات عامي الثامن والأربعين إن قدر اللى العمر وأراد المضي في الحياة فما أحلى الإحساس بروح الشباب على طول خط العمر.