رئيس التحرير
عصام كامل

في رحاب الحبيب!

كم أشتاق إلى الرحيل إليك يا رسول الله.. كم أشتاق إلى الجلوس في رحابك.. ذهبت إليك منذ سنوات، وكنت أظن أن زيارة واحدة تكفى، لكننى أدركت -بعد فوات الأوان- أن هذه كانت البداية، كأول رشفة ماء على شفاه سائر في الصحراء كاد يهلك من العطش.. 


ذهبت اليك مثقلا بهمومى وذنوبي وديوني قبل الذهاب إلى بيت الله الحرام، فشعرت بعظم الهم والجرم.. كيف أتى إليك مثقلا بذنوبي قبل أن أروح بها إلى الكعبة ليغفر لى الغفور الرحيم؟ قلت فى نفسي ألم يكن الأفضل أن أتى إليه كما ولدتنى أمى، نقيا من الذنوب والهموم حتى يكون اللقاء خاليا من أى غرض أوعرض أو مرض..


لا أعرف هل هذا حديث الوجدان أم وسوسة الشيطان خاصة وأن الزحام كان شديدا للدخول إلى روضتك الشريفة قبل أذان العصر.. آلاف يتراصون ويتزاحمون كالطوفان للفوز بموضع قدم في روضتك الشريفة..


شفاعة الرسول الكريم

كان الحوار مع صاحب الروضة يستغرقني، ولا أعرف كم من الوقت مضى وأنا أتخيل المكان بصورته البدائية حين توقف الحبيب بالناقة وقال: دعوها فإنها مأمورة.. وبذلك حُدد مكان المسجد النبوي ومقره النهائي، وقول الرسول: دعوها فإنها مأمورة، تعنى من وجهة نظري أن الأمر سماوي لا دخل للرسول نفسه فيه، أى أن الله اختار هذا المكان مثلما اختار البيت المعمور منذ نشأة الخليقة. 


أقف هنا تحوطني الرحمة وللشفاعة التى لا أعرف من أين تأتى  نسائمها، ولكنها تلفني وتتخللني من كل جانب.. لا أعرف كيف بدأت التحليق من  مكاني إلى هناك الذى لا أعرفه.. الدموع تنساب وتغرق الوجه ولا أعرف كيفية إيقافها ولا سبب هطولها بهذه الغزارة  أصلا..


ثم وجدتني مدفوعا بطوفان من البشر إلى ساحة من المسجد تفصلها عن الروضة الشريفة، وهى المساحة المجاورة لقبر ومقام وبيت الرسول ومنبره الذى وقف فيه ليخطط لقيام دولة الإسلام..

 

ذوباني فى الطوفان واندفاعي توقف فجأة حين وجدتني مجبرا على التوقف بين جالسين غارقين فى الملكوت.. قلت لأحد الجالسين وأنا بين إجهاد السنين وراحة اللحظة، بين اليقظة والغفوة: أين الروضة الشريفة؟ نظر لي بابتسامة رقيقة تتسلل من وجهه منير: أنظر إلى أسفل قدمك؟ السجادة الخضراء تعنى أنك في الروضة الشريفة.

أنتابتنى رعشة وألتفت يمينى فوجدت رجلا لم أكن أشعر به وهو يتابع الحوار، وحين سمع أننا فى الحضرة النبوية الشريفة لم نشعر إلا بكلينا في حضن الآخر، والدموع  تنساب منا أنهارا، والله أكبر تخرج منا في نفس واحد متحشرج يأبى أن يظل في الصدور..

 

صليت ركعتين في رحاب الحبيب على الرغْم من ضيق المساحة التى أخذها جسدي بالعافية حتى أستطيع السجود من شدة الزحام.. لا أعرف كيف بدأت الصلاة؟ وماذا قلت؟ وكيف ركعت؟ وكيف سجدت؟ 

 

لكن الذى أدركته فيما بعد أنني كنت في عالم آخر.. لا أعرف كم من الوقت مضى حتى جاء صوت من الميكروفون يطالبنا بأن نعطى أحباب رسول الله الواقفين خارج الروضة فرصة للدخول.. اتخذت خطواتي للخروج من الروضة، وكنت كمن ارتشف أول رشفة بعد عطش شديد من رحلة طويلة فى الصحراء.. 

من الروضة لقبر الرسول

خرجت من الروضة وأنا أسعى للوصول إلى قبر الرسول.. أعشم النفس بالارتماء فى أحضانه أو الجلوس أمامه.. أريد أن أحاوره.. أريد أن أستمع إليه.. أريد ان اسأله.. أشتاق الى إجاباته.. أريد شفاعته.. 

 

أريد مسامحته وقد جئته محملا بذنوبي وكنت أود أن أتى إليه متطهرا منها ومتخففا من همومي حتى يكون الحُوَار والزيارة بلا غرض إلا حبه.. أريد  أن أعرض عليه حالنا وحال المسلمين.. أريد أن استنجد به  مما يدور حولنا.. أتشبث به وبقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

 

نظرت من بعيد إلى الممر الذي يؤدى إلى المقام الشريف وجدت الحراس لا يسمحون بالوقوف أمامه.. المرور السريع  فقط وإلقاء السلام على الحبيب وصحبه أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب.. أقول لنفسي.. يعنى جئت من آخر الدنيا حتى تمر من أمامه ولا تجلس أمامه.. 

 

كيف أسامح نفسى على هذا التقصير.. كان المؤذن قد رفع أذان المغرب واستعد المصلون للصلاة وحين شعرت بفقدان الأمل وخف السائرون إليه قلت في نفسى أذهب إليه وتباطأ أمامه مستغلا قلة أعداد السائرين أمامه من أى وقت آخر.. سرت إليه وأنا أحادثه: جئتك من هناك وأتمنى الجلوس إلى جوارك ولكن يبدو أن الحلم صعب المنال..

 

ولكن حين أقتربت منه غمرني النور وانهمرت الدموع كالطوفان، تحسست جدران مقامه بيدى المبللة بالدموع وصوت متحشرج لا أدركه ولا أفهم مفرداته، بل يصعب علي حتى نطق حروفه.. ليس مهما أن ينطق لغايا.. فما بينى وبين الحبيب تواصل لا تعرفه لغة أو أشارة.. وفى غمرة هذا التحليق بين الواقع والخيال، جاء صوت المؤذن لإقامة الصلاة، فارتفع صوت الحراس: كل يصلى في مكانه.

 

 

فوجدتني أقف وخلفي قبر الرسول مباشرة وكأن الحبيب رفض وأبى أن يردني من أمام  بابه، واستضافني لدقائق أخرى تمتد طوال  الصلاة، وكأن المولى عز وجل قد رد على حبى لرسوله بحب أشد، جمعني به في الصلاة  وفى رحاب حبيبه المصطفى!
yousrielsaid@yahoo.com

الجريدة الرسمية