صورة الدكتور مصطفى النادر
دخلت مهرولة، مقتحمة عليَّ مكتبي في العيادة النفسية على نيل القاهرة، وكانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل، تأخرت في العيادة لضيق استبد بصدري. فاجأني دخولها الهجومي الوقح. هذا ما كان ينقصني حقًّا! كنت وحدي تقريبًا، حين وجدتها أمامي وفي عيونها دموع تتكون. نهضتُ مستفهمًا، أستوعب غضبي وأحاصر رد فعلي الثائر بداخلي مستعينًا بأدوات المهنة.
درت حولها ورحت أسألها من أنت وكيف دخلت، ولم أكد أنتهى من السؤال حتى رأيتها تسقط على المقعد المقابل لمكتبي، تصورت الجحيم المرتبط بوجود سيدة لا أعرفها مغمى عليها أو ميتة، في عيادتي الشهيرة، منتصف الليل!
حاولت بكل طريقة أعرفها إفاقتها، حتى سحبت الماء البارد من ثلاجة المكتب على شعرها، ولأول مرة أنتبه إلى جمال وجهها وهي تفتح عينيها شيئًا فشيئًا، وتزيح خصلات من شعرها الكثيف الذي انتبهت أنه أشقر، تقريبًا لون الشعر الذي يعجبني!
لما أفاقت قامت معتذرة وخصلات الشعر المبلول تزيدها جاذبية، لا أريد أن أقول أنوثة قمعًا لذاتى والتزامًا بآداب العمل، والحق أنها رغم الأنوثة التى حلت بفعل لفتات وجه ابتلت ملامحه، بدت في خجل شديد.
ومن نظرة إلى كيانها وملابسها أدركت أنها سيدة وقورة غالبًا، وأنها في أزمة خاصة، وأنها مهدرة نفسيًّا وبدنيًّا، وربما أرادت الاستغاثة بي بوصفي طبيبًا معروفًا بحل المشكلات الزوجية والعاطفية.
أخجلتها بتحديقي الطويل في عينيها، فأطرقت ولما سحبت نظراتي عنها، تماسكت وتجمعت، ومضت تعتذر وقالت إنني من وجهة نظرها طوق النجاة الوحيد، ولأنني لم أفهم ما هو المقصود وقد بدأت أرتاب، فقد عاودت السؤال: لا أفهمك سيدتي، ماذا تقصدين؟
- مشكلتي باختصار أنت!
طالعتها بعينين متسائلتين فقالت: لن تغضب إن قلت الحقيقة؟
- أي حقيقة؟
- حقيقة أني أحبك بجنون..
نهضت مذهولا سقطت في مقعدي ولا بد أن مائة سؤال أخرى قفزت من عيني لأنها قالت: سأجيبك على كل الأسئلة لكن أرجوك لا تتخل عنى، إني مريضة بك، فقد هجرت حياتي من أجلك.
نهضت وقلت لها: حضرتك.. حضرتك تعرفيني؟
- اعرفك؟ كيف لا اعرفك وأنت تسكن قلبى وعقلى ونبضي، أراك ولاترانى!
- حضرتك ماذا تريدين منى بالضبط.. انت سوف تسببين كارثة لى ولك.
- عالجني، أنا مريضة بك أنا مسجونة فيك حررني منك.. أنت مرضى الذي يدمرنى..
فتحت باب المكتب مستغيثا بمساعدى الذى يبدو أنه اختفى فجأة.. لكنها قالت بهدوء: لا تقلق عليه هو في سابع نومة الأن..
- ماذا فعلت به ؟
- لاشئ اعطيته قطعة شيكولاته، ونام. آسفة.. منعنى عنك طول الأسبوع.
هرولت خارجا ولاحظت إنها تتبعت خطواتي، ودخلت الغرفة المجاورة فوجدت الرجل يغط في نوم عميق، فعدت إليها ببصرى وهى تنظر إلى بعيون مبتسمة، رحت أزغده، أطمئن على أنه لم يفارق الحياة، لكنه فيما يبدو كان مستمتعا بالغيبوبة العميقة، ووضعت كفي عند انفه وفمه فتلقيت أنفاسه واطمأننت.
عدت إليها فسبقتني إلى المكتب كأنما خشيت أن اغلقه دونها، فعاودت السؤال: هو أنت حاولت قبل الآن زيارتي؟
- حبيبي أنا أتابعك من سنوات طويلة، من يوم التقينا بالنادي..
- أي نادٍ؟ أي نادٍ؟ ليس مهمًّا.. عمومًا. تفضلي أنا راجع لبيتي.. ممكن تخرجي؟
عندئذ اقتربت منى وعانقتني بعنف، ثم سقطت مغشيا عليها مرة أخرى، وسقط تليفونها بجوارها وفجأة رن فقررت الرد وجاءني صوت رجل أشبه بصوتي أنا، كأني أكلم نفسي: أين أنت يا دينا.. ردي علينا الدنيا مقلوبة هنا في البيت.. هذا الرجل لن ينفعك هو لا يحبك.. عودي إلى البيت.
بهدوء أجبته: حضرتك أنا لست دينا.. أنا دكتور مصطفى النادر.. وزوجتك اقتحمت مكتبي ومغمى عليها هنا الآن، وبدلًا من صراخ الرجل قال بهدوء: يمكنني شرح الأمر لك وهو معقد، لكن متى ستعلن حبك لها يا أخي!
كان الصوت مطابقا تقريبا لصوتى ومع ذلك اعتبرتها ملاحظة ثانوية إزاء الموقف الجارى، فقلت له: حضرتك.. أنا صعب أفهم رد فعلك، زوجتك عندي ومغمى عليها وأنت بكل هذا البرود وتسألني متى سأحبها، أنت مجنون أنت أيضًا؟
- يا أستاذ حاول تشوف نفسك وترى صورتك وبيتك
- يا أستاذ هل أنت فعلا زوجها؟
- مؤكد زوجها وأقول لك إنها مريضة بك وأنت علاجها فضمها إليك بحنان وقوة وبعد دقائق ستعود إلى حالتها الطبيعية
صرخت فيه: بعد إذنك أنا سأطلب النجدة.. أنتم عائلة مجنونة!
ببرود سمعتني اقول عبر صوته بالتليفون: اطلب النجدة.. اطلب من تشاء.. لن يفيدك إلا الحضن.
- نعم؟
- احضنها
- أنت تقول لي أن أحضن زوجتك؟
- نعم احضنها، وبقوة طبطب عليها..
- أنت من؟
- أنا من؟
- نعم من أنت؟
- افتح الكاميرا
- لماذا ؟
- سألتني من أنا وتريد الإجابة؟
- نعم.
إذن افتح الكاميرا تعرف من أكون!
حانت مني نظرة غيظ نحو السيدة التى كانت بدأت تتململ وتناديني باسمى مجردًا من لقبي كطبيب..
عاد الرجل وفي نبرة صوته حدة وأمر: افتح الكاميرا إني أكلمك فيديو.
بتردد وجدتني أفتح الكاميرا.. وجدتني هناك.. إنه أنا!.. إننى أنا!