هل مات هتلر حقًّا؟
على مقربة من حالة الملل أصبحت أصابعى كغيرى هى التى تقود ما أشاهده سريعا دون تركيز، فأنتقل بين قنوات عربية وأجنبية دون هدف أبحث عنه، وتتساوى قنوات الرياضة مع قنوات الأغانى أو حتى قنوات البث الدينى بكل ما فيها من تناقضات في الرؤى.
وبعد جولة من الطواف السريع يلقى بى الريموت كنترول على واحدة من القنوات الوثائقية المدهشة، حيث تبث فيلما مرعبا عن هتلر وداهية دعايته جوبلز، ينتقل المصور بين أفلام قديمة لمشاهد حرب دامية وبين أوراق رسمية من عواصم أوروبية عدة وبين وجوه لمصادر معلومات بعضها تعرفه ومعظمها مجهول.
كان هتلر داهية، ولم يكن وزير دعايته أقل منه دهاء، وكان الاثنان دمويين كنموذج لوحشية الإنسان عندما تصبح حرية الحركة دون ضمير يقيدها، وكان هتلر عنصريا بغيضا.. هكذا جاء صوت السارد القوى والذى تحيطه موسيقى مؤثرة توحي بأنه لا يقول إلا حقا.
كان جوبلز يقول: «إن الدعاية السياسية هى ترسيخ وجهة نظر الدولة فى نفوس الجماهير ترسيخا قويا ومتينا بحيث يشعر الشعب أجمعه بأنه مرتبط بها، وأن الدعاية السياسية لم يكن ممكنا أن تبقى مجرد وسيلة للاستيلاء على الحكم، بل كان من المحتوم أن تصبح وسيلة لتوطيد أركان الحكم وتعميق أثره بعد أن يتم الاستيلاء عليه».
وفى نفس الموضوع يقول: «وإذا كانت الدعاية السياسية هى السلاح الذى استولينا به على الدولة فيجب أن يبقى هذا السلاح فى خدمة الدولة إذا كنا لا نريد أن نترك الحكم أو نترك بمعنى آخر ارتباط الشعب بنا أو ارتباطنا بالشعب».
صور مكثفة لبحور من الدماء التى كان هتلر سببا فيها، وعبارات تعبِّر بشكل قاطع عن جنون القتل والتدمير والخراب وترسيخ مفاهيم العنصرية البغيضة حول رؤيته القومية المتطرفة لشعب يرى أنه الأحق وحده بالحياة، وهو وحده أيضًا صاحب قرار بقاء من يريد أن يبقيه أصلا على قيد الحياة.
أعرف أن صنعة الفيلم وضعتنى بعيدا عن حالة الملل التى كانت قد سيطرت واستحكمت فى نفسى الأمارة بالسوء بعض استفهامات وألغاز ما زلت أتصور أن لها ظلا من الحقيقة حول حقيقة رحيل هتلر ووزير دعايته، وما إذا كانا لا يزالان أحياء بيننا في جل بقاع الأرض.
هل مات هتلر حقا؟
إذا كان هتلر قد مات فعلا بعد فعلته الشنعاء باليهود وغيرهم من الأمم فمن يكون يهود اليوم أصلا؟ ألا يمارسون القتل أمام الكاميرات.. قتل الأطفال والشيوخ والنساء.. ألا يحرقون الزرع ويهدمون البيوت ويفجرون كل ما هو دليل على الحياة؟
هل مات هتلر حقا بعد أن زرع فى نفوس شعبه أنه الشعب المختار والأوحد؟.. وماذا يفعل الغرب من أمس وحتى اليوم.. ألا يحتلون أوطانا ويسْبون نساء ويستولون على مقدرات شعوب ويخربون أوطانا ويزرعون الفتنة بين الأمم.. ماذا فعلوا بالعراق وأفغانستان وفيتنام وعشرات الدول بأفريقيا السوداء كما يصفونها؟
هل مات الرجل الذى قال بتفوق جنس بلاده؟ وماذا يفعل الفرنسيون الآن؟ وماذا يفعل الأمريكان أيضًا وغيرهم من دول تدعى التحضر الإنسانى؟ ألا يقتلون كل من هو من غير لونهم؟ ألا يجمعون التبرعات لضابط كمكافأة على قتله شابا جزائريا؟ وماذا يفعل الأمريكان فى الملوَّنين ببلادهم؟
هل مات هتلر حقا بعد أن زرع بذور الدعاية الكاذبة للاستيلاء على الدولة وإبقائها تحت سطوته رهن الاعتقال بشرا وحجرا؟ وماذا نقول فيمن يهيمنون على دولهم بذات الدعاية ونفس الأكاذيب ويبقون على دولهم تحت سيطرة الإفك والقوة والجبروت؟!
هتلر أصبح فكرة لا تموت.. فكرة تعيش فى الغرب بلون مغاير لفكرته فى الشرق.. فى الغرب عنصريون ديمقراطيون.. يستولون على الحكم بأساليب دعائية خلاقة وفى الشرق يخطفون الأوطان بدعاية قديمة بالية ولكنها تحمل ذات المضامين.. فى الغرب يقتلون بالقانون وفى الشرق يقتلون بأدوات وطرق بدائية عقيمة، غير أن أهداف الغرب والشرق واحدة.
هتلر أصبح يعيش داخل كل إنسان فينا.. يعيش فى قلوب السُّنَّة ويتحكم فى قلوب الشيعة، كلاهما يبغض الآخر وينفيه ويرغب فى الانقضاض عليه ووأده والخلاص منه.. يعيش فى نفوس كل المذاهب الدينية والسياسية.. يعيش فى قلوب العرب رفضا للعجم ويعيش فى قلوب العجم رفضا لغير العجم.
هتلر أصبح طريقة حياة.. تستطيع أن تراه فى نفسك، وفى جارك، وتراه فى الغرب المتقدم صناعيا والمتخلف حضاريا، وتراه فى الشرق المتخلف فى الاثنين.. هتلر داخل ذاتك، ويعيش فى بيتك، فلا تبحث عنه بعيدا.. ابحث عنه فى دارك، وفى نفسك، وفى جيرانك، وقبل هذا وذاك ستراه فى وطنك خالدا.