رئيس التحرير
عصام كامل

‬من‭ ‬بلد‭ ‬الحريات

في ساحة ‬الكونكورد بباريس وقفت مخاطبا ابنتى: ‬إن سألك سائل عن جنسيتك فقولى بإباء وكبرياء: ‬مصرية. هنا قليل من كثير من تاريخ أجدادك فتلك هى مسلة الأقصر التى أهداها محمد على باشا إلى فرنسا عام 1833م، وعلى مقربة من هنا كنز كنوز الآثار المصرية في متحف اللوفر‭.‬
 

لقد احتلت فرنسا بلادك يا ابنتى غير أن أجدادك طردوا المحتل، وها نحن نحتل بتاريخنا وفنوننا وآثارنا قلب باريس.. ‬نحتلها بالفن والقيم والآثار الخالدة.. دخلوا بلادنا بالسلاح وغزوناهم بدرر الفن القديم قدم الزمان.. هنا لك ممتلكات غير كل الممتلكات.. ‬هنا تتزين باريس بما صنعه أجدادك‭.‬



في جولة بمدينة السحر والجمال تستطيع أن ترى ما هو أبعد من الجمال الأخاذ.. ‬ترى وبوضوح بقايا ثورة دعت إلى المساواة والحرية وزرعت في نفوس البشرية نموذجا للعيش الإنسانى الراقى وقيم التسامح والحب والديمقراطية.. ‬هنا مهد ثورة الإنسان الحديث ضد القيود‭.‬


زيارة لمتحف القصر الصغير سترى قاعات عرض لفنون أفريقية وأخرى من شرق آسيا ومن أمريكا الجنوبية ومن قلب أوروبا النابض.. ‬هنا مزيج من التجارب الإنسانية الأسمى.. ‬وهنا أيضًا يكمن التناقض، قاعات عرض لا تحكمها العنصرية وفى الشارع سترى غير ما تحتفظ به جدران المتاحف وقاعات العرض‭.‬


وفي متحف القصر الكبير لن يخذلك الواقع الفرنسى الذى لا يزال يقدم عروضا لتاريخ البشرية من كل حدب وصوب.. سترى كل ألوان البشر متجسدة في معروضات فنية وعروض لفنانين من كل بقاع الأرض.. ‬هنا ترى كل صنوف البشر في لوحات وأعمال لا تفرق بين أبيض وأسود‭.‬


باريس عاصمة اغتسلت آلاف المرات لتمسح من تاريخها عار الاستعمار وتجمل وجهها بألوان التعدد الفنى الساكن فى كل قاعات المتاحف وقاعات العرض الفنى المدهشة.. ‬باريس تطهرت مئات المرات لتمحو من تاريخها غصبا واحتلالا وجبروتا، وتمكنت من رسم ملامح إنسانية متعددة الأوجه‭.‬


صاغت باريس لنفسها طريقا بين البشرية عن الحرية والمساواة وصدرت ثورتها إلى كل بقاع العالم فآمن بها مثقفون ومفكرون وكتاب.. ‬ذابت فيها أقلام الروائيين والشعراء والمفكرين فكتبوا عنها من فواكه الكلم ما لذ وطاب وصدروها لشعوبهم كباحة وواحة تتسع لكل البشر.
 

Advertisements

احتجاجات فرنسا 


ما الذى يجرى في شوارع باريس؟ وكيف تناقضت المتاحف بمعروضاتها مع واقع مرير من العنصرية التى دعت البعض إلى جمع تبرعات فى ثلاثة أيام وصلت قيمتها لأكثر من‭600 ‬ ألف يورو للضابط الذى قتل بدم بارد وبطريقة مروعة شابا جزائريا.‬


تصورت في أول الأمر أن الناس تبرعوا لأسرة الشاب القتيل غير أن الحقيقة أدهشتنى.. ‬هل اختارت باريس طريق الحرب الأهلية؟! وهل أقدمت على شرعنة العنصرية البغيضة؟! وكيف جرت وقائع الانفصام في جدران بلد صدر نفسه باعتباره بيت المساواة والحريات‭.‬


لم يكن مقتل شاب جزائرى بطريقة بشعة على يد رجال الشرطة هو السبب الوحيد لما يجرى من خراب ودمار في شوارع باريس، فالقصة أعمق من ذلك بكثير وأبعد أثرا من مجرد حادث تورط فيه ضابط شرطة محمي بتعديل قانونى مقيت زاد من جرائم الشرطة ضد المواطنين العزل‭.‬


المتابع لحالة حقوق الإنسان في بلد الحرية يدرك أن تغييرا كبيرا جرى في السنوات العشرين الأخيرة مع ترسخ عنصرية كريهة أخذت طريقها إلى دولاب العمل الأمنى في فرنسا التى طالما تغنت بثورة عبرت حدودها إلى آفاق الإنسانية كلها، وأصبحت أيقونة المنادين بالحرية فى ‬العالم.


القضاء الفرنسى أدان الدولة الفرنسية عام‭1999 ‬ ووصفها بالعنصرية الممنهجة التى سرت فى أوصال جهاز الشرطة وبعدها توالت إدانات المحاكم الفرنسية ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن منظمات حقوقية محلية ودولية أشارت إلى ممارسات تدعم العنصرية وتؤصل لها فى الداخل الفرنسي‭.‬


سنوات من النقد الموجه للدولة بمفهومها الواسع فى قضية العنصرية لم تضغط على النظام السياسى بتشكيلاته الحالية للعودة إلى الخلف خطوة ودراسة الأمر، وزاد الطين بلة التعديل الذى جرى على قانون الإجراءات الجنائية فى العام 2017م والذى أعطى للشرطى الحق فى إطلاق النار فى قضايا مرورية.
 

الديمقراطية وحقوق الإنسان

منذ إقرار هذا التعديل وتقارير المنظمات الحقوقية تشير إلى تضاعف جرائم القتل التى يرتكبها ضباط شرطة في قضايا مرورية إلى خمسة أضعاف ما كان عليه، أضف إلى ذلك حديث تلك المنظمات من الداخل والخارج حول عنصرية التوقيف والتحقق من الشخصية.‬


أشارت تقارير المنظمات الحقوقية إلى أن الفرنسيين المجنسين يتعرضون للتوقيف من قبل الشرطة 20‬‮‬ ضعف المواطن الفرنسى الأبيض، أى أن التوقيف فى حد ذاته يعتمد منهجا عنصريا تثبته الأرقام والإحصائيات، ولم يكن مقتل الشاب نائل هو الأول، ولن يكون الأخير.


ماكرون رفض طريقة قتل نائل، ولكنه رفض أيضًا الاتهامات الموجهة للشرطة، فلم يكن من الجماهير التى احتشدت بالشوارع إلا أن امتطت غضبتها، وتحولت إلى حالة من العنف المرفوض منطقيا وعقليا وقانونيا غير أنه أصبح واقعا يجب التعامل معه بطريقة مغايرة لفكرة إجهاد الجهاز الأمنى فى قضية حقوقية بالدرجة الأولى.


بعض كتاب الغرب فسر إفراط الجماهير فى العنف والحرق والسطو على أنه حالة تعبير تتوافق مع تجمد وتكلس النظام السياسى في فرنسا، عازين ذلك إلى أن الجماهير التى لا تجد استجابة لما تطالب به يكون لجوؤها للعنف مبررا، فالديمقراطية نظام سياسى يعتمد على استجابة الدولة للجماهير في قضايا الحق والعيش والحرية والمساواة.


وأيا كان النظام الحاكم في الشرق كان أو فى الغرب، وأيا كانت قوة الدولة ومكانتها فإن سد الطريق أمام التغيير السلمى واعتماد القوة والبطش لن تمنع حركة الجماهير، وكلما زادت قوة البطش واستخدام الأمن كجهاز وقائى وحيد فإن كل هذا لن يؤدى إلا إلى حركة واسعة من العنف لن تقوى عليها أعتى الأجهزة الأمنية.
 

التغيير‭ ‬السلمى وإرادة الشعوب


التغيير السلمى والاستجابة للشعوب هى الوعاء الحامى والقادر على صياغة معادلة الحكم الرشيد وحماية مقدرات الدول واستقرارها فلم يثبت تاريخيا أن شعبا يحظى بحقوقه وتحترم الدولة إرادته أن خرج على النص أو اتبع العنف وسيلة للتغيير.


لا شك أن كل مواطن فرنسى يتمنى لبلاده الازدهار والقوة والاستقرار والتقدم، وينطبق ذلك على أى جماعة بشرية فى الكون وإنما يغير من بوصلتها أن يصبح النظام محتميا بالقوة الأمنية أو بالقوانين التى يصوغها رغما عن الشعب أو بالإمساك بزمام البطش طريقا للإدارة.


فى بلادنا تحركت الجماهير عندما اتبع النظام سلوكا أحاديا في الحكم وقرر أن يترك الجماهير في واديها تنادى وتطالب، وهو يفعل ما يشاء تحت شعار قولوا ما شئتم وسنحكم بطريقتنا.. سقط النظام وجاء نظام بديل لم يستوعب الدرس، فأراد الانفراد والاستفراد بالحكم متصورا أن أغلبيته التى مارست الديكتاتورية ستحميه.. ‬سقط أيضًا.


وأى نظام لا يستوعب هذا الدرس حتى لو كان في فرنسا بلد الحريات سيلقى نفس المصير وستخرج الجماهير عليه وربما تمارس عنفا كالذى نراه في باريس مدينة النور ولن يحمى النظام نفسه بالطوارئ ولا بالقوة الجبارة.. ‬حركة الجماهير أكثر جبروتا لأنها صاحبة الحق الوحيد في اختيار طريقة إدارتها.

 

إهمال إرادة الناس ومعاناتها والعيش خلف ستائر القوة كلها أوهام لم تحم ديكتاتورا في التاريخ حتى لو تزين هذا الديكتاتور بنظام يبدو مظهره من الخارج ديمقراطيا والحالة الفرنسية أصدق مثال على ما نقول، فرئيس فرنسا يعود إلى بلاده مهددا بفرض حالة الطوارئ لإعادة النظام وهو في أضعف حالاته.

 


تحظى كتب التاريخ بمئات القصص والحكايات وكلها ذات مغزى وحيد.. ‬إرادة الشعوب هى الأبقى وهى الأقوى وهى النافذة في النهاية ولن يمنعها مانع ولن يحول دون حقوقها حائل حتى لو في فرنسا بلد الحريات التى تعانى الآن أكثر من أى وقت مضى.

الجريدة الرسمية