درس روسي في علم إدارة الغضب
بدأ يوم السبت الماضي بتمرد شركة فاجنر على الجيش الروسي وإعلان العصيان المسلح والاستيلاء على مدينة روستوف الروسية، التى تدار منها العمليات في جنوب وشرق أوكرانيا، بل ودخول مقر القيادة والسيطرة على المطار، ووصف بوتين العصيان في بيان حزين صارم للأمة الروسية بالخيانة وبانه طعنة في الظهر، واستدعى التاريخ وحذر من اندلاع حرب أهلية كالتي شهدتها البلاد في أوائل القرن العشرين..
ويلفت النظر أن بوتين لم يذكر قط اسم قائد التمرد صديقه الحميم يفيجيني بريجوجين، وقد أثار بيان التمرد، موجات من الذهول في العالم، وبخاصة مع تقدم حوالي ستة آلاف جندي مرتزق نحو موسكو العاصمة، قطعت مسافة 900 كيلو متر. دون أن تطلق رصاصة واحدة منها أو عليها. مع نهاية اليوم تبين انتهاء التمرد بوساطة من بيلاروسيا الحليف الأوثق لموسكو، حيث إن رئيسها صديق حميم أيضا لقائد التمرد.
في 24 ساعة بدأ تمرد مسلح علي الجيش الروسي وانتهى، واللغز ليس في إنهاء التمرد سريعا وقبول الشركة التى تعمل في إطار القانون الروسي وينظم عمل شركات الأمن العسكرية، بل يكمن اللغز في حالة بوتين الغريبة، وهي الحالة التى ألقت عليه بأوصاف عديدة أقلها الضعف، وانفراط السيطرة، وتداعي النظام.. احتارت أجهزة المخابرات الكبرى في إيجاد إجابات عن موقف موسكو من قمع التمرد. والصبر عليه دون إراقة الدماء.
اليوم وعلى مدى الخمسة أيام الماضية، بدأت تتداعى المعلومات، وأخطرها أن المخابرات المركزية الأمريكية كانت علي علم واطلاع بنوايا فاجنر، وما تحشده من ذخائر وأسلحة وخطط، إذ كان العداء علنا بين فاجنر ووزير الدفاع الروسي شويحو..
مكاسب وخسائر
وفي السياق أخفت واشنطن هذه المعلومات عن حلفائها، بل وتسربت معلومات جديدة بأن بعض القادة الكبار في الجيش الروسي كانوا أيضا يعرفون بنوايا وخطط التمرد قبل وقوعه، وقالت الاندبندنت البريطانية صباح اليوم أنه تم اعتقال جنرال روسي كبير!
وعند تأمل التفاصيل وما إنتهت إليه من شكر معلن وتقدير ساطع من بوتن لجنود وضباط فاجنر، يمكن القول أن بوتن أظهر حنكة كبيرة في إدارة الموقف، كرجل دولة وأمن بارع، وكقائد عسكرى، إذ لم تصرفه واقعة فرعية عن الخطة العامة والمجهود الحربي الرئيسي، واختار أن يطعن في قدراته العقلية والشخصية والسياسية على أن يقدم للغرب روسيا ممزقة بيد أبنائها!
مع نهاية اليوم وصباح اليوم التالي تبين للعالم أن بوتين كسب ولم يخسر، ولأن بريجوجين مولع بالظهور، قبل أن يغادر إلى بيلاروسيا وفق الاتفاق مع رئيسها فإنه قال إنه لم يسع أبدا للانقلاب، وأن قواته كانت تعبر عن غضب بسبب مواقف وزير الدفاع الذي قصف معسكرات فاجنر وقتل أعدادا كبيرة من الجنود والضباط.
ويمكن القول إن خطة بوتين النهائية هي نقل ملكية فاجنر إلى الجيش الروسي ودمجها، ولقد كشفت موسكو أنها بالفعل الممول الرئيسي لهذه القوات حتى مايو الماضي، بل يلفت النظر أن قوانين تأسيس الشركات العسكرية المعمول به في روسيا لم يمس ولا اشارات علي تعديله بل هناك تأكيد رسمي على أنه لا يزال قائما.
لقد أطاح بوتين بقائد فاجنر دون فاجنر ذاتها، كما لم يطح بوزير دفاعه ورئيس أركان جيشه كما اشترط قائد فاجنر، ووفر عقود عمل مجزية بالقوات المسلحة الروسية لمن لم يتمرد منهم.. لماذا إذن يبقي بوتين علي قوة مناوئة لسلطانه وجيشه؟
قوات فاجنر تضم حوالي 36000 جندي، من أمهر الجنود، ومن أبشعهم قسوة، ومن أخطرهم في العمليات، وبسبب ستة آلاف منهم، تواجدت روسيا في السودان وفي مالي وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، ينقلون صادرات الذهب السوداني لموسكو، والماس من مناجم أفريقيا الوسطى لموسكو، ويحمون الأنظمة، ويديرون المناجم هناك..
بل لهم قوة في سوريا، تعمل لحساب دمشق وفق معلومات الوول ستريت جورنال الأمريكية، وبالفعل طلبت موسكو من الأسد العمل على عدم مغادرة جنود فاجنر سوريا دون إشراف موسكو والتنسيق معها، وامتثل الجنود وسلموا أنفسهم وأسلحتهم إلى الجيش الروسي في قاعدة جوية باللاذقية..
عملية فاجنر في نهاية المطاف خسارة للغرب، مكسب لروسيا.. لكن ملف الألغاز لا يزال ضخما.
نتابع