اوقفوا إعلام الفضايح
عندما لا يدرك العاملون في الإعلام دورهم كقادة رأي يحملون على عاتقهم مسؤولية التعليم والتوجيه والتثقيف في هذا البلد، ويحولونه بجهل إلى إعلام فضائح وتشهير، فنحن بالتأكد أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن ما يتم مقصود ويمارس طبقا لتعليمات لإلهاء الرأي العام عن قضايا بعينها، أو أننا أمام كارثة مهنية يتحمل مسؤوليتها بامتياز القائمون على إدارة منظومة الإعلام في هذا البلد.
فخلال الأسبوع الماضي، وفى اقتحام فاضح للحياة الشخصية للبسطاء في مصر، تسابقت المواقع الإلكترونية على نشر فيديو صورة مجهول لفتاة مصرية ترقص في حفل زفاف صديقتها، ونشره عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وبدلا من التوجيه بإدانة السلوك المقيت الذي يعد انتهاكًا صريحًا للخصوصية، فقد تلقفه إعلام الفضايح وتسابق على نشره تحت اسم "صاحبة الفستان الأزرق" لهثًا وراء الترند وأعلى المشاهدات والقراءات، دون النظر إلى المردود النفسي والأسري الكارثي الذي قد يقع على الفتاة وأسرتها.
إقتحام الخصوصية
وهو ما حدث للأسف بالفعل، حيث تسبب النشر غير المسؤول، في أزمة نفسية وأسرية للفتاة، التي لا علاقة لها بالفن أو السياسة أو الرياضة أو أي من مجالات الشهرة، ولم تسلك سوى سلوك طبيعى يتكرر آلاف المرات يوميًا من فتيات وسيدات في حفلات الزفاف، مما أجبرها تحت ضغط النشر الذي تم تصديره كـ"فضيحة"، على التغيب مجبرة عن أداء امتحاناتها بالجامعة، والخروج ومناشدة الجميع في أسى بالكف عن نشر الفيديو، بعد أن باتت حياتها الأسرية مهددة بالانهيار.
للأسف.. هذه ليست الواقعة الأولى التي ينزلق فيها الإعلام إلى اقتحام خصوصية البسطاء، بل سبقها عشرات الوقائع، كان آخرها عندما تسبب في فضيحة لمعلمة كانت بصحبة زملائها في رحلة نيلة وشاركتهم الرقص، غير أن شخصًا متلصصًا صور ونشر المقطع أيضًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتلقفه إعلام الفضايح أيضا بشكل غير مسؤول ونشره تحت إسم "معلمة الدقهلية".
غير أن النشر تسبب في إدخال السيدة في أزمة نفسية وأسرية ومهنية اضطرتها إلى الاستقالة، بعد أن قررت مديرية التعليم بالدقهلية -تحت ضغط سيل النشر- إلى إبعادها عن العمل بدلًا من البحث عن الشخص غير الأمين الذي قام بالتلصص والتصوير والنشر، ولولا تدخل العقلاء لعصف الإعلام غير المسؤول بحياة السيدة وأسرتها ووظيفتها.
ومنذ أيام أيضا تلقف ذات الإعلام غير المسؤول، فيديو للقارئ الشيخ ممدوح عامر، تم نشره أيضًا دون تحقق، بعد أن صوره ونشره مجهول على مواقع التواصل الاجتماعي، للشيخ الكفيف وهو يغني ويصفق وسط حشد في حفل شعبي، ما أثار الرأي العام ضد الرجل والكفيف واتهامه بعدم احترام مكانتة أو مكانة القرآن الكريم.
وأمام سيل النشر وضغط الرأي العام، أسرعت نقابة قراء القرآن الكريم -دون تحقق أيضًا- وأصدرت بيانًا شديد اللهجة أكدت فيه "أن الشيخ هبط إلى مستوى متدنٍ لا يليق بأهل القرآن"، ما اضطر الشاب الكفيف إلى الخروج بأدب وهدوء جم، كاشفًا أنه كان في حفل زفاف شقيقه الأصغر ولم يخرج عن الآداب العامة، وأنه لم يفعل شيئًا سوى أنه فرح بشقيقه مثل كل البشر..
وفي وجود عدد من أعضاء مجلس النقابة، واضطر في نهاية حديثه إلى الاعتذار بحزن قائلًا: "أعتذر لكل من رأى الفيديو غير لائق واقول له حقك علىّ، لكن قدّر موقفي أنا بفرح بأخويا".
مخالفة القانون
للأسف هكذا بات إعلام الفضايح يقتحم الحياة الخاصة حتى للبسطاء الذين لا علاقة لهم بالشهرة أو النجومية لهثًا وراء الترند وأعلى القراءات، وهكذا بات يشوّه الجميع دون تحقق، على الرغم من أن مفهوم الخصوصية قانونًا يشمل الاحتفالات الخاصة، لأنها لا تتاح سوى لغير المدعوين، وأن نشر ما يحدث بداخلها دون إذن يعد تلصصًا وانتهاكًا لحرمة الحياة الخاصة، تُجرمه المادة 309 مكرر من قانون العقوبات بالحبس مدة لا تزيد على سنة لا تسقط بالتقادم.
ألم يصل إلى مسامع جهابذة إعلام الفضايح، أن نشر محتوى الاعتداء على الحياه الخاصة على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي يعد جريمة مزدوجة، طبقًا لنص المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنه 2018 التي تعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر، وبغرامة تصل إلى 100 ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، لكل من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية أو انتهك حرمة الحياة الخاصة"؟
وهل مازال من يسيئون لسمو ورفعة مهنة الإعلام يجهلون أن المادة 27 من ذات القانون تعاقب بالحبس لمدة لا تقل عن سنتين وغرامة تصل إلى 300 ألف جنيه، لكل من أنشأ أو أدار أو استخدم موقعًا أو حسابًا خاصًا على شبكة معلوماتية بهدف ارتكاب أو تسهيل جريمة معاقب عليها قانونًا، وأن تلك الجريمة تمتد أيضا إلى المواقع الصحفية التي أعادت نشر ولو أجزاء نقلًا عن ناشره الأصلي.
ألا يعلم كل من نشر أن ما قام به يخالف أحكام قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018 الذي حظر في مواده رقم 4 و9 و17 و20 على المؤسسة الصحفية والوسيلة الإعلامية والموقع الإلكتروني نشر أو بث أي مواد يتعارض محتواها مع أحكام الدستور أو مخالفة القانون والنظام العام، أو الاعتداء على حقوق المواطنين أو التعرض لحياتهم الخاصة.
أعتقد أن الأمر بات سخيفًا ومستفزًا ولا يستدعي مزيدًا من الصمت من المجلس الأعلى للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة لوقف تلك المهزلة المهنية، وإلا علينا التسليم بأن ما يتم متعمد ومقصود لإلهاء الرأي العام عن قضايا بعينها.. وكفى.