فضلًا.. امنحوا قُبلة الحياة للمصريين
لا أدرى إلى متى ستظل الحكومة تعمل بشكل مرتعش ومتلكئ، بعيدًا عن المشكلات الحقيقية التى تمس صلب حياة المواطن، وكأنها باتت بلا رؤية وعملها محكوم بتوجهات تمنعها من اقتراح قوانين أو إصدار قرارات نابعة من رؤيتها، تُسهم في تحريك حالة الركود التى أصابت السوق المصرى، أو تخفف من الأعباء الثقيلة التى ألقت بها الظروف الاقتصادية الطاحنة على كاهل الفقراء.
فمنذ عدة سنوات قررت الحكومة -دون دراسة- القيام بدور المقاول والدخول إلى سوق العقارات، وشرعت في بناء ملايين الوحدات السكنية الجديدة وطرحها للبيع، على الرغم من عدم وجود أزمة إسكان حقيقية في مصر -طبقا لبيانات الجهاز المركزى للإحصاء الصادرة فى عام 2017- والتى أكدت يقينا أنه يوجد فى مصر 12.5 مليون وحدة سكنية مغلقة، تمثل نحو 29.1% من إجمالى عدد الوحدات السكنية في البلاد.
أى أن الأمر لم يكن في حاجة لأكثر من تشريع يمكن الحكومة من إغراء الملاك بفتح تلك الوحدات وطرحها للإيجار أو البيع، ولاسيما أن البيانات قد أكدت وجود 935 ألف وحدة مغلقة لدواعى السفر للخارج، و3 ملايين و156 ألف وحدة مغلقة لوجود سكن آخر للمالك، و4 ملايين و263 ألف وحدة مغلقة غير مكتملة التشطيب، و4 ملايين و860 ألف وحدة مغلقة ومكتملة التشطيب، 580 ألف وحدة في حاجة إلى ترميم، و2 مليون و267 ألف منشأة خالية ومغلقة، و33 ألف عقار صادر بحقها قرارات إزالة، ومليون و410 آلاف وحدة مغلقة تحت بنود أخرى.
غير أن الحكومة تمادت في الخطأ عند دخولها سوق العقارات، وشرعت ضمانا لتسويق وحداتها السكنية فى وضع شروط مجحفة للبناء، جمدت بموجبها حركة المعمار وكل المهن المرتبطة بها في القرى والمدن المصرية كافةً، مما أدى بالتبعية إلى الإلقاء بما يزيد على 15 مليون من العاملين بقطاعات البناء، والمهن المرتبطة بها وعائلاتهم جبرا إلى طابور البطالة.
ليس هذا فحسب، بل أدى الأمر إلى إصابة السوق المصرى بالكساد، بعد أن حرمته من مليارات الجنيهات كانت تشكل رقمًا ضخمًا في دورة رأس المال نتيجة لعمليات البيع والشراء في قطاعات الأراضى ومواد البناء والأخشاب والحديد والكهرباء والدهانات والسيراميك وغيرها من السلع المرتبطة بالمعمار.
تعديل قانون البناء
غير أنها بعد سنوات من الكساد، تحركت الحكومة في يناير الماضى لإعادة الأمور لنصابها، وأرسلت إلى مجلس الشيوخ بمشروع تعديل على قانون البناء رقم 119 لسنة 2008 ومعها شروط البناء التعجيزية التى منعت بموجبها البناء قبل سنوات.
غير أنها وللأسف بدلا من أن تمنح قبلة الحياة لملايين العمال والسوق المصرى، أرسلت مشروع التعديل دون أن يحمل أى جديد، وانتهت لجنة الإسكان بالمجلس من مناقشتها أيضا دون أن تدخل عليه أى تعديلات، سوى تعديل مدة سريان رخصة البناء من عام إلى ثلاثة أعوام، في حين أن شروط البناء التعجيزية تمنع المواطن من الأساس من الحصول على التراخيص.
وكادت التعديلات تمر دون تغيير، لولا أننى حذرت في مقال سابق نشر في يناير الماضى، من المحتوى الهش الذى ستخرج به التعديلات وعدم جدواها، وهو ما استجابت له الحكومة فى حينها مشكورة، وسارعت بسحبها من مجلس الشيوخ قبل الموافقة عليها.
غير أن العجيب في الأمر، أنه رغم مرور ما يزيد على 6 أشهر على سحب تلك التعديلات، لم تتحرك الحكومة ولم تقدم مجرد بارقة أمل توحى بوجود تعديلات جوهرية تعيد حركة البناء، على الرغم من الظروف المأساوية التى يعيشها ملايين العمال وأسرهم، وحالة الركود المميتة التى أصابت الأسواق.
شروط البناء الجديدة
أعى بالتأكد أن الحكومة كانت تهدف إلى الحد من العشوائيات وخلق مجتمعات عمرانية جديدة تحد من التكدس الخانق داخل المدن المصرية، غير أنها لم تحقق الهدف، وفتحت سوقا جديدة لآلاف السماسرة باتوا يتحكمون في مصير ملايين الوحدات التى تسكنها الأشباح، في مقابل ربح تافه يحصل عليه الأغلبية ممن تسابقوا على حجز تلك الشقق.
وحتى نعى مدى التعقيد الذى وضعته الحكومة ومنعت بموجبة البناء جبرا، فقد اشترطت لإصدار ترخيص البناء ضرورة أن يكون عقد الأرض مسجلا بالشهر العقارى وبتسلسل الملاك أيا كان عددهم، وألا يتم البناء سوى على 70% فقط من الأراضى التى تبدأ مساحتها من 175 مترا أو يزيد، على ألا يزيد ارتفاع المبنى على 4 طوابق فقط فوق الأرضى، حتى وإن زاد عرض الشارع على الـ50 مترا.
ليس هذا فحسب، بل قيدت الارتفاعات بألا تتعدى الـ10 أمتار "أرضى + دورين " فقط في الشوارع التى يقل عرضها عن الـ8 أمتار، و13 مترا "أرضى + 3 أدوار" فى الشوارع التى يتراوح عرضها بين 8 و13 مترا، وألا تزيد على "4 أدوار + أرضى" فقط فى الشوارع التى يزيد عرضها عن 12 مترا..
كما منعت المواطن من استغلال الدور الأرضى تجاريا وتخصيصه كجراج حتى وإن لم يكن يمتلك دراجة، وجميعها شروط ترفع من التكلفة الكلية للمبنى بشكل لا يتناسب حتى وإمكانيات الأثرياء، فى ظل الارتفاع غير الطبيعى لأسعار الأراضى ومواد البناء.
أعلم أن هذه ليست المرة الأولى التى أتحدث فيها في هذا الموضوع، ولن تكون الأخيرة، وأنه بات فرضا على الحكومة أن تتخلى عن دور المقاول، وتفتح متنفسا للسوق المصرى، ومعه ملايين الفقراء الذى حولتهم جبرا من حرفيين محترمين إلى عاطلين وسائقى تكاتك.. وكفى.