رئيس التحرير
عصام كامل

الحقائق الغائبة بملف اللاجئين العرب في مصر

المصارحة تحتم الاعتراف بأن الإعلام المصرى يتجنب الاقتراب من ملف الأشقاء العرب اللاجئين فى مصر ولو بمجرد التلميح، نظرا لما تحمله القضية من حساسيات إنسانية أكثر منها سياسية، قد يترتب عليها لغط لا يتناسب والدور التاريخى لمصر التى ظلت دائما وأبدا بمثابة البيت الكبير الذى يحتضن كل العرب وقت الأزمات.

 

غير أن ردود الأفعال السلبية وغير المسؤولة التى صاحبت قرار الخارجية المصرية الذى صدر منذ أيام، بتغيير إجراءات دخول الأشقاء السودانيين إلى الأراضى المصرية، يستدعى ضرورة المصارحة، وطرح ملف اللاجئين بكافة أبعاده ودون مواربة، ولاسيما بعد النظرة الأحادية الضيقة التى جعلت كيانات خارجية تسارع إلى بخس حق مصر، التى لم تجبر لاجئًا عربيًا واحدًا على الإقامة مقهورا داخل مخيم مأساوى للاجئين مثل غيرها من الدول.

 

فالمدقق فى أمر القرار المصري بشكل واقعى سوف يكتشف وبسهولة، أن مصر لم تتخذ ذات الخطوة عند اندلاع الأحداث فى ليبيا أو سوريا أو العراق أو اليمن، على الرغم من تدفق الملايين من أبناء تلك الدول على مصر، والعيش والعمل فيها، ناهيك عن الزحف غير الطبيعى على القاهرة أيضا من أبناء دول مثل السودان ـ قبل الأحداث ـ وجنوب السودان وتشاد وغيرها من الجنسيات العربية والإفريقية.

 

ورغم الظروف الاقتصادية الطاحنة التى تمر بها مصر، وإضافة الأشقاء اللاجئين للبلاد أعباء فوق الأعباء، إلا أنها لم تغلق أبوابها يوما أمام لاجئ عربى واحد، ولم تفرض شروطًا على الإقامة أو العمل أو التملك، بل تركت الجميع يتعامل بحرية فى شتى بقاع مصر.

اللاجئون السوادنيين

بل إن التساهل المصرى دفع الأغلبية العظمى من اللاجئين العرب في مصر لعدم اللجوء أو القيد بسجلات مكتب مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة فى القاهرة، مما جعل أعداد اللاجئين في مصر يتوقف لديها عند رقم الـ9 ملايين لاجئ فقط، فى حين أن الرقم الحقيقى بعد اندلاع الأحداث في السودان يزيد على الـ20 مليون لاجئ.

 

دعونا نتفق أنه حتى ما قبل اندلاع المواجهات في السودان، كان أمر الأشقاء اللاجئين في مصر يلقى كل ترحاب من الحكومة التى تعانى كوارث التضخم والديون الخارجية ونقص الدولار وتعثر الواردات، ومن المصريين الذين يعانون ضغوط الأزمة الاقتصادية والتعويم والارتفاعات غير الطبيعية في الأسعار.

 

في الوقت الذى انتشرت فيه المشروعات الاستهلاكية للأشقاء اللاجئين في كل شبر في مصر، بشكل أثر بالسلب على مثيلاتها المصرية، لدرجة اضطرت كثيرا منها فعليا إلى الإغلاق، وهو ما لم تعترض عليه الحكومة أو الشعب.

 

غير أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، حيث أدت موجات اللجوء غير المقننة إلى أن بات أبناء جنسيات عربية بعينها يشكلون الأغلبية في عدد من أحياء القاهرة الكبرى، لدرجة دفعت عددا كبيرا منهم لاحترف مهنة السمسرة وتأجير وتمليك العقارات، التى ارتفعت أسعارها بشكل جنونى، بات فوق قدرات المصريين.

 

و تبدل الحال إلى الأسوأ بعد اندلاع الأحداث في السودان، حيث سمحت مصر كعادتها بدخول الأشقاء السودانيين دون قيد أو شرط، لدرجة أن الأعداد خلال أقل من شهرين بات بالملايين، وبدا الأمر غير طبيعي مع تورط كثير من حوادث غير المقبولة اجتماعيا أو أخلاقيا سجلتها بلاغات الشرطة المصرية.

 

غير أن التبعات السلبية بدأت في الظهور بشكل ملموس، مع تلويح الآلاف من أصحاب العقارات للسكان المصريين بالطرد أو دفع القيمة الإيجابية المرتفعة التي يعرضها الأشقاء السودانيون، والتي وصلت في الأحياء المتوسطة من 3 إلى 15 و20 و25 ألف جنيه شهريا، وهى مبالغ لا تتناسب والدخول المحدودة للمصريين.

 

ووصلت ذروة الخطر مع تصاعد الأحداث، وتزايد الرغبة لدى ملايين العائلات السودانية في النزوح إلى مصر، وما صاحبها من انتشار عصابات سودانية احترفت تزوير وثائق السفر السودانية وتأشيرات الدخول المصرية، في مقابل مبالغ مالية ضخمة حصلوا عليها من آلاف السودانيين لتسهيل دخولهم إلى مصر، وهو ما رصدته السلطات في البلدين.

تعنت الأمم المتحدة

وكان طبيعيا أن ترى مصر في الأمر خطرا على أمنها الداخلى، ولاسيما مع تزايد أعداد الأشقاء السودانيين بالمعابر الحدودية بشكل يومى، ووجود احتمالات بتسرب مجهولين أمنيا إلى الداخل المصرى، وهو ما دعا مصر إلى فرض عدد من الإجراءات الأمنية، وتحول تأشيرة الدخول إلى إلكترونية يصعب تزويرها.

 

إلا أنه بدلا من الاعتراف بالدور المصرى في ظل الأزمات التى تعيشها البلاد، سارعت منظمات وجهات خارجية بشن هجوم على مصر، معتبرة القرار -على غير الحقيقة- خطوة لإغلاق أبواب مصر في وجه السودانيين وزيادة معاناتهم.

 

الواقع يقول إن مصر كانت ولا تزال لا تفرض قيدا على دخول أى من الأشقاء العرب، وأن جميعهم يقيمون في البلاد منذ سنوات بإقامات لا تكلفهم سوى جنيهات قليلة، ودون علم الأمم المتحدة التى لا تمتلك سوى أرقام تبتعد كثيرا عن الواقع الحقيقى لأعداد اللاجئين في مصر، خاصة بعد اندلاع المواجهات في السودان، وفرار الملايين من أبنائها الذين باتوا يشكلون الأغلبية وسط شوارع القاهرة.

 

كما أن ذات الواقع يقول إن مصر لم تعد باستطاعتها فعليا تحمل المزيد من اللاجئين، ليس بسبب الأزمة الاقتصادية الخناقة التى تعيشها البلاد فحسب، بل لحاجة هؤلاء الأشقاء أيضا لمتطلبات ثقيلة لن تستطيع الحكومة المصرية الوفاء بالقليل منها في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، وبالتوازى مع حق البلاد المشروع في التحقق من سلامة الموقف الأمنى لكل من يرغب فى الدخول إلى أراضيها.

إلا أن ما يدعو للعجب في أمر ملف اللاجئين في مصر، هو ذلك الموقف الغريب والمتعنت من الأمم المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى، اللذين يرفضان بشكل قاطع إدراج مصر ضمن برنامج المساعدات الدولية لرعاية اللاجئين، تحت زعم أن أعداد اللاجئين في مصر يقل بمراحل عن الأرقام التى تسوقها الحكومة المصرية.

لست هنا بصدد المزايدة، بل رصد الواقع الذى يؤكد أن مصر كانت وستظل البيت الكبير الذى يحتض كل العرب وقت الأزمات، غير أن الأمر بات فعليا فوق طاقتها.. وكفى.

الجريدة الرسمية