طاهر أبو فاشا.. المال أهم من الشهرة!
في مطلع حياتي الصحفية عملت معدا للبرامج في الإذاعة والتليفزيون بجانب عملي الأساسي كصحفي من أجل زيادة دخلي المادي.. ووظيفة المعد أن يختار اسم البرنامج وهدفه ومدته ويقدمها لرئيس الإذاعة أو التليفزيون الذي يحيلها إلى لجنة البرامج؛ فإذا تمت الموافقة يجتمع المعد مع المخرج والمذيعة للاتفاق على خطة العمل بعد أن ينزل على الخريطة..
وتكون مهمته إعداد -الاسكربت- الأسئلة التي تطرحها المذيعة على الضيف، كما يختار ضيوف البرنامج حسب طبيعته..وذات يوم قابلت الشاعر الكبير طاهر أبو فاشا الذي كان شبه مقيم بمبنى الاذاعة والتليفزيون وطلبت منه موعدا لاستضافته في برنامج زيارة الذي كنت أعده علي القناة الأولى بالتليفزيون..
فكان رده علي الفور: حتدوني كام؟.. ودارت بيننا سجالات ضاحكة، وأخيرا وافق علي الاستضافة بلا مقابل بعد أن أقنعته بان برنامجي ليس له ميزانية للضيوف، وأنه سيجاملني وسيرفع من شأن برنامجي بقامة كبيرة مثله!
والحقيقة فإن شعر طاهر أبو فاشا يتسم بالحلاوة والإبداع والإعجاب كلما تذوقته وقرأته، صياغته متسقة ورصينة لأن موهبته طاغية، ولديه قدرة فائقة على اختيار ألفاظه الشعرية بمهارة اكتسبها من التعمق في اللغة العربية وأسرارها والاخذ بناصيتها لأنه أصلا خريج كلية دار العلوم سنة 1940، وتوفي في مايو عام 1989..
موهبة طاهر أبو فاشا
صدرت له أعمال شعرية خالدة ورائعة وتضم ستة دواوين هي صورة الشباب والاشواك والقيثارة السارية وراهب الليل والليالي ودموع لا تجف. وعندما أصدر الشاعر الكبير طاهر ابو فاشا دواوينه الثلاثة الأولي سنة 1928 وسنة 1932 وسنة 1938 قال عنه خليل جبران في مقدمة الاشواك: شاعر لا ريب فيه، ومجدد من طراز الذين لا عوزهم قوة الديباجة وجمال العبارة..
ومع أن هذه الدواوين كانت المرحلة الاولي لبزوغ نجمه الشعري، إلا أن كبار الشعراء والنقاد والصحفيين أعلنوا عنه كصاحب موهبة أصيلة، ولغة شعرية متميزة، وعالم جديد من الرؤي والتجارب والمواقف، واكتملت من خلاله سمات شاعر يقتحم الساحة ويفرض اسمه علي المجتمع الثقافي والواقع الادبي..
وكان طاهر ابو فاشا اديبا شاملا؛ فهو شاعر، وقاص، وباحث، وكاتب درامي، وفقيه في اللغة، ومحيط بكل دقائقها وأسرارها، ولكنه كان يعتز بالشعر أكثر من سواه، ومع هذا كان محدثا بارعا من الطراز الاول يستهوي السامعين بظرفه وحكاياته ونوادره، وذاكرته الفولاذية، وبذكائه الحاد، وبديهته الحاضرة، وبكل هذه المواصفات المتفردة وصلت موهبته الطاغية إلي اسماع كوكب الشرق الراحلة السيدة أم كلثوم!
غنت له أم كلثوم من أشعاره في فيلم (رابعة العدوية) مجموعة أغاني صوفية اشهرها (حسب مقدرة ذاكرتي): الرضا والنور.. غريب علي باب الرجاء.. حانت الاقدار.. وعرفت الهوي، ومع ذلك فاذا قارنت طاهر ابو فاشا بشعراء عظام أمثال احمد شوقي أو ابراهيم ناجي أو الهادي أدم أو جورج جرداق من شعراء الفصحي؛ فستجده أقلهم شهرة، وربما قد يكون أقدر من بعضهم في الموهبة الشعرية.. فلماذا؟
والجواب: لقد جذبته الاذاعة ووقف نفسه عليها لحوالي 35 عاما، واستنفذ نشاطه وطاقاته الإبداعية في التأليف لها، وانصرف عن تأليف الشعر إلا بين حين وآخر حينما كانت تفرض عليه التجربة الشعرية نفسها، فلا يري فكاكا من الرضوخ لها والتعبير عنها، وهو (كدمياطي) أحب المال أكثر من الشهرة، لان عوائد البرامج التمثيلية والغنائية المادية أعلي بكثير من عوائد تأليف الأغاني..
فكتب ألف ليلة وليلة للاذاعة في 800 حلقة، وألف يوم ويوم لإذاعة الكويت، حتي الأغاني التي كتبها لام كلثوم في فيلم رابعة العدوية كانت عبارة عن اوبريت، ولم يكلف نفسه مرة أن يسعي عند أم كلثوم أو ليلي مراد أو نجاة الصغيرة أو عبد الحليم حافظ أن يكتب لكل منهم أغاني يشدوا بها فترتفع شهرته معهم ويذيع صيته أكثر، لا.. لقد اكتفي بما يقدمه من حلقات وبرامج تمثيلية لاذاعة مصر وبعض الدول العربية..
ورغم أن شعره جميلا فلم يكن مكثرا بسبب ضيق وقته الذي أفناه في كتابة المسلسلات للإذاعات، وسعادته الغامرة بما (يقبضه) منها، وباعترافه هو شخصيا بذلك في أحد الحوارات الصحفية: الاذاعة تجعلني مبلول اليد، بينما الشعر لا يعود علي بأي عائد من مال!
ومن وجهة نظري الشخصية أيضا في عدم نيل الشاعر العظيم طاهر أبوفاشا الشهرة التي تتناسب مع موهبته، أنه (كدمياطي) لم يكن يصرف علي تسويق موهبته الشعرية بتوسيع دوائر العلاقات العامة للتعريف بنفسه، ويصنع نجوميته مثل كل أصحاب المواهب الذكية؛ وهذا لا يعيبها!
ومع كل محاولاته الدؤبة لجمع هذه الأموال من نتاج موهبته بعرقه وعصاميته وكفاحه؛ فلم نسمع بعد موته ورحيله أنه بني "عماير" أو اسس شركات أو حصل علي توكيلات تجارية، أو عدد زوجات بل كان يحب زوجته بشدة ونعاها بقصيدة خالدة يوم رحيلها، فأين ذهبت ثروته؟.. علما بأن حياته وسلوكه كانت مضرب المثل في الاستقامة!