أبو الزهراء يكافئ مادحيه (2)
ومن أقدم ما مدح به سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قصيدة الأعشى.. وشاعرنا هذا هو ميمون بن قيس بن جندل، من بني قيس بن ثعلبة الوائلي، أبو بصير، المعروف بأعشى قيس، ويقال له أعشى بكر بن وائل، والأعشى الكبير.. وهو من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، وأحد أصحاب المعلقات..
كان كثير الوفود على الملوك من العرب والفرس، غزير الشعر، يسلك فيه كل مسلك، وليس أحد ممن عرف قبله أكثر شعرًا منه. وكان يغني بشعره، فسمي (صَنَّاجة العرب). وقصيدته في مديح سيد النبيين، صلى الله عليه وآله وسلم"، يقول في مطلعها:
أَلَم تَغتَمِض عَيناكَ لَيلَةَ أَرمَدا وَعادَكَ ما عادَ السَليمَ المُسَهَّدا
ثم يقول عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قاصدا مدحه:
أَلا أَيُّهَذا السائِلي أَينَ يَمَّمَت فَإِنَّ لَها في أَهلِ يَثرِبَ مَوعِدا
فَأَمّا إِذا ما أَدلَجَت فَتَرى لَها رَقيبَينِ جَديًا لا يَغيبُ وَفَرقَدا
وَفيها إِذا ما هَجَّرَت عَجرَفِيَّةٌ إِذا خِلتَ حِرباءَ الظَهيرَةِ أَصيَدا
أَجَدَّت بِرِجلَيها نَجاءً وَراجَعَت يَداها خِنافًا لَيِّنًا غَيرَ أَحرَدا
فَآلَيتُ لا أَرثي لَها مِن كَلالَةٍ وَلا مِن حَفىً حَتّى تَزورَ مُحَمَّدا
مَتى ما تُناخي عِندَ بابِ اِبنِ هاشِمٍ تُريحي وَتَلقَي مِن فَواضِلِهِ يَدا
نَبِيٌّ يَرى ما لا تَرَونَ وَذِكرُهُ أَغارَ لَعَمري في البِلادِ وَأَنجَدا
لَهُ صَدَقاتٌ ما تُغِبُّ وَنائِلٌ وَلَيسَ عَطاءُ اليَومِ مانِعَهُ غَدا
أَجِدَّكَ لَم تَسمَع وَصاةَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الإِلَهِ حينَ أَوصى وَأَشهَدا
إِذا أَنتَ لَم تَرحَل بِزادٍ مِنَ التُقى وَلاقَيتَ بَعدَ المَوتِ مَن قَد تَزَوَّدا
نَدِمتَ عَلى أَن لا تَكونَ كَمِثلِهِ وَأَنَّكَ لَم تُرصِد لِما كانَ أَرصَدا
فَإِيّاكَ وَالمَيتاتِ لا تَأكُلَنَّها وَلا تَأخُذَن سَهمًا حَديدًا لِتَفصِدا
وَذا النُصُبِ المَنصوبَ لا تَنسُكَنَّهُ وَلا تَعبُدِ الأَوثانَ وَاللهَ فَاِعبُدا
وَصَلَّ عَلى حينِ العَشِيّاتِ وَالضُحى وَلا تَحمَدِ الشَيطانَ وَاللَهَ فَاِحمَدا
وَلا السائِلَ المَحرومَ لا تَترُكَنَّهُ لِعاقِبَةٍ وَلا الأَسيرَ المُقَيَّدا
وَلا تَسخَرَن مِن بائِسٍ ذي ضَرارَةٍ وَلا تَحسَبَنَّ المَرءَ يَومًا مُخَلَّدا
وَلا تَقرَبَنَّ جارَةً إِنَّ سِرِّها عَلَيكَ حَرامٌ فَاِنكِحَن أَو تَأَبَّدا
فهو يسرد معلوماته عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ورسالة الإسلام، حسبما سمع، فهو من بني هاشم، ويوحى إليه، ويدعو إلى عبادة الله والواحد الأحد، وهو جواد كريم، ويحث على التصدق، ويعطي السائل والمحروم، ويحنو على الأسير، ويقول إن الموت حق على كل البشر، ويحرم الخمر، والميسر، وأكل الميتة، والزنا.. وغير ذلك من تعاليم الإسلام.
هذه القصيدة لا تعتبر من المدائح النبوية، فالأعشى لم يقلها حبا، وصدقا، بل كانت محاولة للتقرب من نبي الإسلام، صلى الله عليه وآله وسلم، والدليل أنه حين راوده القرشيون وأغروه بمكافأة مجزية، انصرف عن لقاء الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم.
تقول الرواية: إن القرشيين صدوا الأعشى حين بلغهم خبره، وسألوه إلى أين؟ فأجابهم بأنه يريد سيدنا (محمدا) ليسلم، فأخبروه أنه ينهاه عن الزنا والقمار والربا والخمر، فقال: لقد تركني الزنا وما تركته.. وأبدى زهده في القمار، على أمل أن يصيب من النبي عوضا منه، وقال عن الربا: ما دنت ولا أدنت.
لكنه أبدى جزعه عند ذكر الخمر، فقال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟، قال: تأخذ مئة من الإبل، وترجع إلى بلدك، وتنتظر ما يصير إليه الأمر، فإن ظهرنا عليه، كنت معنا، وإن ظهر هو علينا، جئته.. فوافق. وأخذ الإبل وانصرف، وفي الطريق إلى بلده ألقاه بعيره من فوق ظهره فقتله.
أي أن محاولته لمدح سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كانت للتكسب، وليست عن حب. وقد تعجل، فلم يصبر حتى يلقى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ولو فعل لكان له الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة، ولكوفئ مثلما كوفئ المادحون، لكنه الطمع البشري الذي أورد صاحبه موارد التهلكة.